الوجود في العالم، الوجود هنا، الوجود مع الغير- مارتن هيدجر

سعيد إيماني
بواسطة -
0

الوجود في العالم، الوجود هنا، الوجود مع الغير - مارتن هيدجر
الوجود في العالم، الوجود هنا، الوجود مع الغير- مارتن هيدجر
اقتراح: المصطفى سكم

نقتبس فيما يلي جزءًا من كتابات د. عبد الرحمن بدوي حول مجموعة من المفاهيم، كمدخل إلى وجودية هيدجر. هذا النص الكلاسيكي لا يزال ذا أهمية كبيرة، خاصة في ضوء تساؤلات الزملاء واستفسارات رواد فيلومغرب. ندعو الجميع، أساتذة وتلاميذ، للمساهمة بآرائهم وأفكارهم لإثراء النقاش في مجال الفلسفة.

الوجود في العالم، الوجود هنا، الوجود مع الغير - مارتن هيدجر

إن وجودية هيدجر لا تعنى بالموجود المفرد، بل بالموجود عامة منظورا إليه في كله وبوصفه كلا. على أن تحليل الوجود بوجه عام لن يلبت أن يلتقي بالموجود المفرد: لأن من يبحث في الوجود لابد أيضا أن يتساءل: ومن أنا؟ ، أنا الباحث في الوجود، نعم إنني لست أنا الوجود، بيد أني مع ذلك موجود وأشارك في الوجود، وعلى صلة بالوجود، إذا الوجود ليس موضوعا مطروحا أمامي وكأنه شيء غريب عني أو منظر أمامي، أو موضوع أستطيع أن أحلله وأفحصه بين يدي كما يفعل عالم النبات بالشجرة التي يدرسها، وإنما الوجود شيء يحيط بي ويؤلف كياني. فأنا ظاهرة من ظواهر الوجود، أنا وجود محدود في الزمان والمكان. أنا وجود هنا فمن يبحث في الوجود لا يستطيع أن ينسى أنه هو أيضا وجود وأنه مندرج في الوجود، "وأي بحث في الوجود يفترض بالضرورة أنه هو نفسه موضوع للبحث" (الوجود والزمان ص 7 ،ص13). وإذن؛ فالسؤال عن الوجود هو في الوقت نفسه ضرب من وجود السائل نفسه الذي هو الموجود الذي يسأل عن وجود الوجود. وهكذا نرى أن تحليل الوجود بوجه عام يقتضي في نفس الوقت تحليل الموجود، وبهذا يلتقي البحث الوجودي مع البحث الموجودي منذ البداية، ولن يستطيع إذن أن نفصل بين كليهما في مجرى البحث بالفعل.لكن بينما التحليل الموجودي يهتم بالأحوال التي فيها ينكشف الوجود لنفسه في الوجود هنا، وسنسمي الوجود هنا باسم "الآنية ".

لهذا فإن تحليل الآنية (الوجود هنا) أي السعي للكشف عن الآنية هو الموضوع الذي وضعه هيدجر لنفسه في كتابه الرئيسي "الوجود والزمان"، وأول ما يكشف عنه هذا التحليل للآنية أي للوجود هنا، هو أن ماهية الوجود هي أنه وجود، أي أنه لا ينفصل عن أحوال وجوده فخواصه ليست إلا ضروبا وأحوالا للموجود، والآنية أي الوجود هنا هي الإمكانية العينية الكاملة لوجودي، ولهذا فإن للوجود الأولوية على الماهية. وهيدجر يفرق بين الوجود وبين وجود الموجود. فالموجود يشمل كل الموضوعات والأشخاص أما وجود الموجودات فهو كونها موجودة، ووجود الأشياء غير الأشياء نفسها، وغير فكرة الموجودات أيضا.

ولهيدجر الفضل في وضع هذا التمييز بكل وضوح والاحتفاظ به، لأن الفلسفة التقليدية كانت تنزلق بسهولة من الواحد إلى الآخر فتخلط بينهما.

وصفات الموجود تجعله كذا أو كذا، فبتحديد هذه الصفات نصل إلى ماهيته، أي ما هو هذا الوجود، لكن إلى جانب هذه الماهية يوجد أنه موجود. بيد أن الفلسفة كانت تقتصر حتى هيدجر على تسجيل أنه موجود دون أن تحلل هذا المعنى، لأنها كانت ترى استحالة هذا التحليل، بدعوى أن الوجود أعم المعاني، وما هو الأعم لا يندرج تحت صفة أخرى. وما لايندرج تحت صفة لا يمكن أن تطلق عليه أية صفة، أما هيدجر فينكر استحالة هذا التحليل، ويقول إنه هو المسألة الفلسفية الكبرى، لأنه هو موضوع الانطولوجيا التي هي علم الوجود بما هو موجود. ولما كان الإنسان هو وحده من بين الموجودات الذي يفهم الوجود. فإن الإنسان موضوع اهتمام علم الوجود، ودراسة الإنسان ستكشف لنا عن المجال الذي فيه يمكن أن توضع مشكلة الوجود، لأن فهم الوجود يتم في الإنسان وبالإنسان. وليس هذا الفهم مجرد فعل من أفعال الإنسان يمكن عزله عن سائر أفعاله، بل هذا الفهم هو نوع وجود الإنسان نفسه، إنه يحدد وجود الإنسان لا ماهيته وأحواله. ومعنى هذا بعبارة أوضح أن أفعال الإنسان وأحواله هي ضروب وجوده، ولهذا فإن دراستها هي في الوقت نفسه دراسة للوجود الإنساني وللوجود بوجه عام.

وفهم هذا الوجود معناه الاهتمام به، وهذا الاهتمام يدور حول الأسئلة التالية التي وضعها كيركجور: أين أنا؟ وما معنى العالم؟ ومن الذي لعب عليّ فوضعني فيه وتركني؟ من أنا ؟ وكيف دخلت هذا العالم؟ ولماذا لم يستشيروني حين أدخلوني فيه؟

وهي أسئلة يرى هيدجر أنه لا معنى لها، مادام الوجود في هذا العالم لم يكن أمرا متوقفا على إرادتي. لقد رمي بي في هذا العالم فسقطت فيه، وها أندا فيه محصور في شباكه، فلا أملك إلا التسليم به.

لكن هذا السقوط لا ينطوي على معنى من معاني الذم، بل هو أمر إيجابي، إذ بغيره ما كان يمكن وجودي أن ينكشف لنفسه، ولولاه لضلّ وجودي في إمكانيات للوجود لا نهاية لها. إن سقوطي معناه أيضا "خروجي عن..." وهذا "الخروج عن..." هو الذي فيه أحقق إمكانيات وجودي.

ولهذا فإن الوجود في الآنية (الوجود هنا) هو أيضا وجود مقدّم خارج الأنية بمعنى أنه سبق على نفسه باستمرار،أي في حالة مشروع يتحقق في المستقبل، ولهذا كان المستقبل أهم آنات الزمان عند هيدجر ، وبعبارة بسيطة سهلة نقول: إن الإنسان يعيش دائما في مستقبله، فوجودي هو ما سيكون عليه وجودي في المستقبل، ولهذا فإن الإنسان في سبق مستمر على نفسه...

لكن ما هذا العالم الذي سقطت فيه؟ إنه أولا عالم من الأشياء والأحياء التي تثير اهتمامه وتحيط به وتشغله، وهذا الاهتمام مصدره أنه لا يستطيع أن يحقق إمكانياته إلا بهذه الأشياء وهؤلاء الأحياء. إنها وإنهم له بمثابة أدوات لتحقيق الآمكانيات، وكل أداة تحيل بطبعها إلى غيرها؛ فالقادوم يحيل إلى الخشب، والمقص إلى القماش والورق، والفأس إلى الأرض. وكل ما في الوجود بالنسبة إلى الذات يحمل طابع الإحالة هذا. وفي هذا تطبيق دقيق لفكرة الإحالة التي أخدها هيدجر من أستاذه هوسرل صاحب مذهب الظاهريات.

إن الوجود يجد نفسه في العالم وسط أدوات يحيل كل منها إلى شيء آخر غيرها، وفي الوقت نفسه يحيل الذات التي تستخدمها، فالوجود في العالم هو وجود إحالة من أشياء بعضها لإلى بعض، وذوات بعضها إلى بعض، والأداة التي لا تحيل إلى شيء ليست شيئاً.

وهذا الوجود في العالم هو كما قلنا سقوط، دون أن تقترن بهذا اللفظ المعاني الذميمة التي ترتبط به أو المعاني الدينية المتعلقة بالهبوط من الجنة والخطيئة الأولى. إنما يقصد به فقط سقوط الوجود الماهوي إلى العالم من أجل تحقيق الإمكانيات التي ينطوي عليها هذا الوجود.

ولكن العالم لا يستنفد وجوده وجود الأشياء؛ فإلى جانب الأشياء يوجد الأحياء، الغير؛ ولهذا فإن الوجود هنا هو أيضاً وجود مع ، وجود مع الغير في العالم: إلا أن هذا الوجود مع من شأنه أن يزيف من الوجود الحق، لأنه ينزل بهذا الوجود إلى حياة زائفة مبتذلة يومية، لأنها حياة متشابهة. ذلك أن الأنية (الوجود هنا) التي تعيش بين آنيات [أغيار] تعيش على غرار هذه الانيات ولا تعيش عيشتها الذاتية الخاصة. فالإنسان الذي يعيش بين الناس يعمل كما يعمل الناس، ويفكر كما يفكر الناس، ويحكم كما يحكم الناس، ويقس الأمور بمقياس الناس، وبالجملة يصبح مجرد نسخة من كائن بلا إسم هو الناس، يردد ما يقولونه، ويسلك السبيل التي يسلكونها، ويثرثر كما يثرثرون، وفي هذا يقضي الإنسان الفرد على فردانيته أي على وجوده الحق، أي على ما يكون ذاتيته وشخصيته وأصالته، ويصبح مجرد شيء بين أشياء وموضوع ضمن موضوعات، وأداة في وسط أدوات، وفي هذا إهدار كامل لحقيقة الإنسان.

لكن لماذا يسقط الإنسان هذا السقوط، ويقضي على حقيقة ذاته؟

إنه يفعل ذلك فرارا من نفسه، ومن العدم الذي يحاصره.

لكن أن لنا أن ندرك العدم، والعدم عدم؟ أوليس هذا تناقضا أن نصف العدم: لأن الوصف إيجاب، والعدم نفي خالص، فكيف نصف بالإيجاب ما هو نفي خالص؟

نعم في هذا تناقض، ولكن بالنسبة إلى المنطق العقلي، ولكن الأمر هنا لا يدخل تحت متناول المنطق العقلي، بل إدراكه من شأن العاطفة، والعاطفة تكشف لنا عن العدم في الوجود. ...وأبرز ما يتجلى فيه العدم ، القلق. والقلق ليس هو الخوف، لأن الخوف هو دائما خوف من شيء معين، أما القلق فيتعلق بالأشياء كلها في مجموعها. إن ما نقلق عليه في القلق هو العدم الماثل في الأشياء والأحياء، إذ نشعر في القلق بأننا نحن وكل الأشياء والأحياء قد انزلقنا في هاوية غامضة غير محددة. فتبدو لي غريبة، لا أهتم بها، إنها لم تنعدم، ولكنها فقدت عندي كل معنى وأضحت خلوا من كل معنى يثير الاهتمام.

وهذا العدم لا يبدو لي شيئا يقف أمامي، ويعارض الوجود، بل ينكشف لي أنه ينتسب إلى الوجود نفسه، إلى الوجود الحق، إنه يبدو لي في الوجود كأنه جزء من كيانه ومن صميمه، بل يبدو لي شرطا لتحقق الوجود أو لانكشافه، لأن العدم يظهر لي في كل فعل من أفعال الوجود. يظهر لي في السلب، حينما أقول: هذا الشيء ليس كذا، وفي القيام بفعل من الأفعال، لأن الفعل يقتضي اختيار وجه واحد من أوجه الممكن ونبذ سائر الممكنات. فهذا التحديد الناشئ عن ضرورة الاختيار من أجل الفعل، هو أيضا يحمل معنى العدم . وكل إنكار، أو ثورة، أو تمرد، أو منع، أو تحريم، أو زهد أو امتناع يحمل أيضا معنى العدم. ولهذا فإن العدم ينفذ في كل الوجود ويتفشى فيه، ويكفي مجرد تنبيه الاهتمام إليه لكي ينكشف له في كل فعل. فليس القلق هو الذي يوجد العدم، إن صح هذا التعبير بل هو فقط الذي ينبه الإنسان إلى وجوده.

ولهذا لابد للإنسان أن يعيش في القلق ليتنبه إلى حقيقة الوجود. ذلك أن الإنسان بطبعه يميل إلى الفرار من وجهه العدم الماثل في صميم الوجود وذلك بالسقوط بين الناس وفي الحياة اليومية الزائفة، ولكي يعود إلى ذاته لابد من قلق كبير يوقظه من سباته.

والقلق على نحوين: قلق من شيء، وقلق على شيء. والموجود في العالم يقلق على إمكانياته التي لن يستطيع مهما فعل أن يحقق منها غير جزء ضئيل جدا: أولا لأن التحقيق يقتضي الاختيار لوجوه والنبذ لسائر الوجوه، وثانيا لأن ثمة حقيقة كبرى تقف دون استمرار التحقيق ألا وهي: الموت...

عن دراسات في الفلسفة الوجودية د.عبد الرحمن بدوي المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط1 1980 ص88 إلى ص93


إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(موافق) #days=(20)

يستخدم موقعنا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. تعرف أكثر
Ok, Go it!