تحليـل ومناقشـة نـص: "صعوبات معرفة الغير"
لـنيكولا مالبرانش صفحة 33 من كتاب مباهج الفلسفة
بقلم: بدر الدين آيت بباعزيز
تعتبر الفلسفة العقلانية من الفلسفات التي تناولت مسألة الوضع البشري، كمجال يحصر الذات الإنسانية في وجودها بمجموعة من الأبعاد/المستويات، وخاصة البعد الجماعي – العلائقي الذي يتناوله مفهوم الغير، والذي يتحدد كأنا آخر،"الأنا الذي ليس أنا" حسب تعبير سارتر، إن الغير بهذا التحديد، يبرز كآخر بشري مخالف للذات كما يبرز كائنا مماثلا للذات من حيث التركيب الأنطولوجي، من حيث مقومات الوعي والحرية والإرادة.
انطلاقا من هذا الوضع المزدوج لوجود الغير (التماثل والاختلاف) وانطلاقا من قراءتنا للنص، تطرح إشكالية العلاقة المعرفية بين الأنا والغير، فإذا كانت المعرفة هي نشاط فكري للذات العارفة حول موضوع المعرفة، وإذا كان الإنسان قد تحدد في الفلسفة باعتباره ذاتا مفكرة في مقابل الأشياء والموضوعات:
فهل يمكن معرفته باعتباره غيرا؟
هل معرفة هذا الغير ممكنة كذات أم مستحيلة باعتباره موضوعا؟
هل يمكن معرفة الغير والتواصل معه مثلما أتعرف وأتواصل مع ذاتي؟ أم أن معرفة الذات لذاتها تكتسي يقينا لا تكتسيه معرفتها للغير؟
هل يمكن النفاذ إلى أعماقه والتعاطف معه؟
هل يمكن أن أعرف الغير انطلاقا من ذاتي؟ أم أنه من الخطأ الحكم على الآخرين انطلاقا من وعينا الذاتي؟
ألا تجعلني التعبيرات الجسدية المتخيلة عن الغير أمتلك معرفة خاطئة عنه؟
ماهي حدود معرفتي بالغير؟
يتقدم النص بأطروحة مفادها أن معرفة الغير معرفة غير ممكنة، قائمة على الإفتراض والتخمين لأنها تتم بالإعتماد على قوة الحكم الإستدلالي العقلي، وبالتالي فهي معرضة للخطأ ولا ترقى إلى مستوى يقين المعرفة الحدسية المباشرة الذي يميز معرفة الذات لذاتها.
فما معنى أن معرفة الغير تعتمد على قوة الحكم الإستدلالي العقلي؟
وكيف يكون اليقين هو معيارا المعرفة الحدسية المباشرة؟
إن معرفة الغير في نظر مالبرانش، قائمة على المماثلة بين الذوات، أي قائمة على إسقاط وقياس مشاعر وأحاسيس وأفكار الذات كأنا بمشاعر وأحاسيس ذات الغير والمماثلة بينها من وبين مشاعر وأفكار الغير من منطلق أن الغير من نفس فصيلة ذاتي وانطلاقا من وعي لذاتي، غير أن المعرفة القائمة على هذا الأساس معرفة معرضة للخطأ ولا يمكن أن تكون بدرجة اليقين القائم الحدس والإدراك المباشر لموضوعات نفوسنا وعقولنا.
ولبناء هذا التصور يعتمد النص على بنية مفاهيمية تصب كلها في تحديد مفهوم المعرفة في علاقته مع الغير (الغير، الذات، اليقين، التخمين، المعرفة، الإستدلال، الحكم ...) فالذات في علاقتها المعرفية مع الغير لا تنشئ إلا معرفة قائمة على التخمين والتقريب، أكيد أن الأنا قد يشاطر الغير في بعض المعارف التي يكونها عن ذاته إلا أن ذلك لا يسري على خصوصيا ت الذات، إذ من الخطأ الجزم بأن ميولات وانفعالات الذات تماثل تماثلا يقينيا ميولات وانفعالات الغير، فعلى حد تعبير الفيلسوف فإن الأنا تكون كثيرا ما تقع في الخطأ إذا اقتصرت في حكمها على الآخر انطلاقا من ذاتها .
لإقناعنا بهذا الموقف العقلاني من معرفة الغير توسل الفيلسوف ببنية حجاجية قائمة على المزاوجة بين استرتجية الإثبات، وهكذا فقد افتتح نصه بالتأكيد على أن كل معرفة الغير غير ممكنة لأن كل ما تكونه الذات عن الغير من معرفة تنشأ عن إسقاط مشاعرها على الغير وقياسها إلى ذاتها ولهذا فإنها تبقى معرفة تخمينية وغير يقينية، وبالتالي فإن كل ما يمكن الوصول إليه هو مجرد إطلاقا لفرضيات خاطئة. وقد دعم ذلك بعدة أمثلة كتذوقنا لبعض الأشياء، وشعورنا بالحرارة أو البرودة. فصحيح أننا كلنا نشعر بالحرارة ولكن لسنا كلنا نشعر بنفس درجة الحرارة وهكذا حال البرودة والإحساس والشعور لا يمكن أن يكون هناك تماثل وتشابه، وانتهى باستنتاج عبر عنه بالصيغة التالية:
... وهكذا فالمعرفة التي لنا عن الناس الآخرين تكون كثيرة التعرض للخطأ إذا نحن اقتصرنا في حكمنا فقط على عواطفنا..
إن ما قدمه ميرلوبونتي في هذا النص يستمد قيمته وأهميته في إعلائه من قيمة الإنسان كغير وكذات، والنظر إليه كذات متميزة مستعصية عن كل معرفة وعم كل تحديد موضوعي، وبالتالي فإن الإنسان ظل مع الفلسفة العقلانية ذاتا متعالية تتمتع باستقلالها عن عالم الموضوعات والأشياء.
نخلص من هذا التحيل إلى أن معرفة الغير غير ممكنة بوصفه ذاتا. وذلك نظرا الإختلاف التجارب. وعليه، فإننا نكون مخطئين إذا كونا معرفة على الآخرين اعتمادا على الإحساسات التي كوناها على أنفسنا. وهكذا فإن معرفتنا بالغير تبقى متسمة بالتخمين والافتراض والقياس، وبعيدة عن اليقين الذي ندرك به دواتنا، وهو تصور يرجع إلى التصور العقلاني الديكارتي القائم على الكوجيطو: "أنا أفكر إذن أنا موجود". لكن إذا كان الغير يحمل أوجه التماثل مع الأنا مثلما يحمل أوجه الإختلاف، فإلى أي حد يمكن التسليم بما ذهب إليه مالبرانش؟ ألا يمكن اعتبار التماثل بيني وبين الغير في كوننا ذوات مفكرة عاقلة مريدة حرة... يمكن ان يكون سببا في إمكانية معرفته معرفة يقينية كما أتعرف بها على ذاتي؟ وبالتالي ألا يمكن أن يكون ذلك سببا لقيام علاقات التواصل والتعاطف بين الأنا والغير؟
خلافا للموقف الذي سجله مالبرانش، يرى ميخائيل باختين أن معرفة الغير ممكنة إلى أبعد الحدود، لأن التواصل مع الغير هو أساس الوجود الإنساني الذاتي، فالإنسان لا يستطيع أن يعيش في العزلة ولا يستطيع الاكتفاء بذاته لأن وجوده في أصله (داخليا أو خارجيا) هو تواصل عميق مع الغير وعبر الغير.
يقول باختين مؤكدا هذا الرأي:
... ليس بمقدوري أن أستغني عن الغير، ولا أستطيع أن أصير أنا ذاتي بدون الغير، يلزمني أن ألغي ذاتي في الغير، وان أجد الغير في ذاتي (في في الانعكاس والإدراك المتبادلين ) ...
وفي نفس الاتجاه الذي يؤكد على إمكانية معرفة الغير وفي نقده للنزعة الذاتية العقلانية والوجودية يرى ميرلوبونتي من وجهة نظر ظاهراتية (الفينومينولوجيا) أن معرفة الغير ممكنة، ولا تكون مستحيلة إلا إذا انغلق على ذاته وتقوقع في عزلته واختلافه رافضا كل أشكال التواصل والحوار مع الأنا، غير أن هذه حالة بعيدة التحقق. إن معرفة الغير ممكنة بوصفه ذاتا لا بوصفه موضوعا. وأنها قائمة على التعاطف لا الموضعة، وهو ما يمكنني من النفاذ إلي طبيعته والتعرف عليها، مثلما أتعرف على ذاتي. إن ميرلوبونتي يأبى أن يتصور وجود الإنسان على أنه ذاتية منغلقة على نفسها، بل ينظر إليه كوجود مرادف للمعية والمشاركة، أي الوجود مع الناس الآخرين ومشاركتهم قيم ودلالات حياتهم المجتمعية.
لكن، إذا كان كل من ميرلوبونتي وباختين يؤكدان على إمكانية معرفة الغير، عبر التواصل وانطلاقا من التشابه الوجودي بين الأنا والغير، فإن هذا لا ينفي وجود اختلاف بينهما، وبالتالي ألا يمكن اعتبار هذا الإختلاف سببا في ضياع التواصل ومنه ضياع المعرفة المتبادلة بينهما كذاتـين؟ ألا يمكن اعتباره سببا لظهور علاقات معرفية أخرى مبنية على أساس التشيئ والنفي والموضعة المتبادلة؟
يؤكد سارتر من هذا المنطلق، بخلاف ما ذهب إليه ميرلوبونتي وباختين، أن الوجود الواعي للغير والذات لا يجعل العلاقة المعرفية بينهما معرفة ذات لذات، بل يجعلها معرفة ذات لموضوع. ومن هنا ينشأ الصراع من أجل نزع الاعتراف، وبالتالي فمعرفتي بالغير لا تكون بوصفه ذاتا بل بوصفه موضوعا، قابلا للتشيئ والنفي. ومن هنا تكون معرفته كذات معرفة صعبة في ظل الوجود القائم على الصراع، وهو الوجود الذي وصفه سارتر بالجحيم في قولته المشهورة في مسرحية الغثيان: "الجحيم هم الآخرون، وللأسف نحن هم الآخرون" والنتيجة أن معرفة الغير عند سارتر ممكنة باعتباره موضوعا، ومستحيلة باعتباره ذاتا. لكن هذا لا يلغي أهميته.
إن هذا الطابع العلائقي يفتح أمامنا إشكالات فلسفية أخرى تتأطر كذلك ضمن الوضع البشري في بعده الأخلاقي والقيمي وضمن وضع الوعي في الوجود وعلاقة الوعي الإنساني بالتاريخ والإلتزام السياسي وغيره من العلاقات الإنسانية، لأن العلاقة مع الغير لا تنحصر في بعدها الوجودي -المعرفي بل تشمل أيضا الجانب العاطفي- الوجداني مما يفسر حضور مسألة القيم في تحديد طبيعة العلاقة بينهما لذلك نتساءل: ما طبيعة المبادئ التي تتأسس عليها علاقة الأنا مع الغير؟ أهي مبادئ أخلاقية أم عقلية أم ذاتية أم كونية؟وهل هي علاقة تقوم على مبادئ الصداقة والمحبة أم على مبادئ الغرابة والكراهية والصراع ؟
الفلسفة العقلانية Rationalisme: مذهب فلسفي يقبل بواقعية عقل أو نظام من الأفكار أو نشاط روحي مستقل عن التجربة.
الحدس Intuition: حسب ديكارت هو إدراك ذهن خالص ومتنبه، إدراك بسيط ومتميز لا يتسرب إليه الشك. أما كانط فكتب يقول:
الحدس هو في بعض الوجوه وبعض الوسائل، هو معرفة بأمور تحصل مباشرة.
الفينومينولوجيا Phénoménologie: فلسفة تركز على التجربة المعيشة، بما تحمله من دلالات ومعان سابقة على التأمل، في كل مجالات الوضع البشري: (المعرفة، السلوك الفردي، اللغة، السياسة، التاريخ، الفن...) وذلك من أجل مساءلتها وكشف معانيها ودلالتها التي يحيا من خلالها الإنسان علاقته بالعالم وبذاته وبالآخرين.
