سؤال فلسفي مفتوح في مفهوم الغير

سعيد إيماني
بواسطة -
0

من اقتراح الاستاذ: فؤاد موحموصة

نموذج مقترح لسؤال فلسفي مفتوح

 هل يشكل الوجود مع الغير تهديدا لذاتي؟



يرتبط الغير في التداول الفلسفي بالآخرين من الناس ويقابله مفهوم الآخر الذي يشكل الغير مجرد مستوى من مستويات وجوده، وتعود الجذور الفلسفية لهذا المفهوم إلى الفلسفة اليونانية التي تناولته في إطار انطولوجي عام ارتبط أساسا بإشكالية الهوية والاختلاف أو الوحدة و الكثرة، لان كل موجود-بما فيه الإنسان- يكون نفسه بالنسبة لذاته وغيرا بالقياس إلى الآخرين، وبهذا المعنى يتحدد الغير بالسلب لكنه سلب لا ينفي ضرورة العيش ضمن مجال مشترك يومي تتبادل فيه الذوات الإنسانية علاقات التأثير والتأثر، وعلى هذا المستوى يبدو الوجود مع الغير تهديدا للذات وسلبا لممكناتها ووجودها الخاص من جهة، لكنه وجود ضروري بالنسبة لها لكي تحقق وعيها بذاتها وتحافظ على بقائها من جهة أخرى، وفي سياق هذا التقابل يندرج السؤال الذي بين أيدينا، إذ يتأطر ضمن الإشكالية العامة لمجزوءة الوضع البشري وتحديدا ضمن مفهوم الغير بوصفه مفهوما مركزيا في ارتباطه بمفهوم الشخص وما يطرحه هذا الارتباط من إشكالات فلسفية ترتبط هنا بالإشكالية الفلسفية لوجود الغير، وهي الإشكالية التي يمكن التعبير عنها كالتالي:
- ماذا يشكل وجود الغير بالنسبة لذاتي؟
- وهل يمكن اعتبار الوجود معه سلبا لوجودي الخاص وتهديدا له؟ وإن كان الأمر كذلك فما مظاهر هذا التهديد؟
- ألا يمكن اعتبار الوجود مع الغير إغناء لتجربة الذات وشرطا ضروريا لوجودها ووعيها بذاتها؟

يتعلق الرهان الأساسي في هذا السؤال بطبيعة وجود الغير وما يشكله هذا الوجود بالنسبة لذاتي، وهو ما تعكسه الصيغة الاستفهامية التي طرح بها (هل...؟) والتي تضعنا أمام إمكانيتين للجواب، إما إثباتا وفي هذه الحالة يكون وجود الغير تهديدا لذاتي وسلبا لوجودي الخاص وهذا ما يعلنه منطوق السؤال، وإما نفيا وهنا يصبح وجود الغير إغناء للذات وإثراء لتجربتها في العالم ، وقد صيغ هذا السؤال من خلال مفاهيم أساسية كمفهوم الوجود مع الغير الذي يحيل إلى الحياة الاجتماعية أو الوجود المشترك اليومي ثم مفهوم الذات التي ترتبط فلسفيا بالأنا بما هي واقع ميتافيزيقي كامن وراء الصفات النفسية والجسدية المتغيرة للشخص، وأخيرا مفهوم التهديد الذي يفيد هنا معاني السلب والنفي الذي يمارسه الغير على الانا في إطار الوجود المشترك اليومي وهذا ما يراهن عليه السؤال الذي ينفتح في المستوى الأول على أطروحة مفترضة مفادها أن الوجود مع الغير يشكل تهديدا لذاتي ونفيا لممكناتي ووجودي الخاص، فكيف ينبغي أن نفهم ذلك؟

إن الغير، من حيث كونه أنا آخر، يتجلى لذاتي ضمن علاقة تعايش معطاة ويحيل بشكل دائم على إمكانية التماهي والتطابق مع الآخرين، لأن الانسان ليس كيانا ميتافيزيقيا ولا وجودا باطنيا ساكنا ومطابقا لذاته داخل عزلة مطلقة عن العالم والآخرين، بل هو وجود دينامي يشكل ذاته باستمرار بانفتاحه على الغير والتفاعل معه ضمن المجال المشترك اليومي الذي يشكل فضاء لتبادل الخبرات وعلاقات التأثير والتأثر بين الذوات، ويترتب عن هذا الوجود المشترك فقدان الذات لما يميزها وما تنفرد به، لأن سلطة "الهم" تمارس تأثيرا على الأنا فتفرغها من وجودها الخاص وتخضعها لسلطة الجماعة التي تجعل الأفراد متشابهين ويتصرفون دائما وفق المعايير المحددة سلفا في المسلك الإجتماعي العام والتي لا يملك الشخص حيالها إلا الخضوع لسلطتها الجبارة والقاهرة ولتوضيح ذلك يمكن أن نستأنس بموقف مارتن هايدغر الذي يعتبر أن الوجود مع الغير يمارس على الموجود- هنا (الأنا)، باعتباره وجودا فرديا خاصا، هيمنة خفية وسلطة تجعله غير مطابق لذاته، بحيث يفرغه من كينونته الخاصة، ويعمل على تذويبه كليا في مجال الوجود المشترك، فيفقده بذلك كل ما يميزه وما ينفرد به، ليصبح جزءا من"الهم" "on "، وشبيها بالآخرين، وليس شخصا متعينا، وكأنه لا أحد، لأن الوجود مع الغير، باعتباره وجودا مشتركا، يذيب كليا "الموجود- هنا" في نمط وجود الغير فيفقده كل ما يميز هويته كاختلاف، ويجعله يتلاشى تدريجيا وينصهر في عالم "النحن"، ويوضح هايدغر تصوره هذا من خلال مجموعة من الأمثلة ( كاستخدامنا لوسائل النقل العمومية واستفادتنا من الخدمات الإعلامية ) والتي تثبت أن كل واحد منا يشبه الآخر لأن سلطة الغير الديكتاتورية أفرغت كليا الذات من وجودها الخاص وأفقدتها كل ما يميزها وما تنفرد به، فإلى أي حد يمكن إذن الإقرار بهذا التصور؟ ألا يمكن اعتبار الوجود مع الغير إغناء لتجربة الذات و شرطا ضروريا لوجودها؟

يؤكد التصور السابق أن العلاقة الانطولوجية بين الأنا والغير تنحصر فقط في مستوى التهديد الذي يمارسه الثاني على الأول، وبهذا اغفل هذا الموقف الفلسفي كل ايجابيات الوجود المشترك معتبرا الغير مصدر تهديد دائم بالنسبة للانا وهو ما يتنافى وواقع الحياة اليومية الذي يثبت أن الوجود مع الغير لا يكون سلبيا إلا حينما ينعدم فيه الحد الأدنى من التبصر الأخلاقي الذي يمكن أن يؤسس لعلاقة ايجابية بين الطرفين، و هذا ما ذهب إليه ايمانويل كانط الذي اعتبر الصداقة- كشكل من أشكال العلاقة مع الغير- مثالا أخلاقيا للتعاطف والتواصل بين الناس غايته المثلى تحقيق خير الصديقين اللذين جمعت بينهما إرادة طيبة واجبة أخلاقية ونبيلة تقوم على أساس توازن عناصر الواجب الأخلاقي بعيدا عن كل منفعة مباشرة أو مصلحة فردية خاصة. إن الصداقة بهذا المعنى اتحاد بين شخصين تجمع بينهما مشاعر الحب والاحترام المتبادل الذي يجعل حب الذات ينصهر في عالم "النحن" لكن دون القضاء على الاختلافات والتمايزات، وهو ما أكده ميرلوبونتي من خلال تحليله الفينومينولوجي لعملية التواصل الذي اثبت أن العلاقة مع الغير لا تشيئه وإن النظرة لا تحوله إلى موضوع ولا تنفيه إلا إذا كانت نظرة نافية لإنسانيته بإصرار مسبق، ومن ثم يطرح ميرلوبونتي تجربة التواصل كتجربة غنية تمكن الأنا من الانفتاح على الغير والتعاطف معه و بالتالي تجاوز تلك البنية العدمية الفاصلة بينهما، وبهذا المعنى لا يغدو الاختلاف بين الذوات اختلافا طبيعيا بقدر ما هو اختلاف إنساني لا يلغي التقاطع ضمن مجال بينذاتي مشترك يتبادل فيه الأنا و الغير كل أشكال التعاطف والمشاركة الوجدانية المؤسسة لفكرة الإنسان في بعده الكوني، غير أن هناك من يشكك في مشروعية هذه التصورات معتبرا أن إشكالية الوجود مع الغير لا يمكن الحسم فيها بالشكل الذي تصوره هايدغر وميرلوبونتي، لكونها إشكالية فلسفية معقدة يتداخل فيها التهديد بالإغناء، ومن ثم يجب مقاربتها من منظور أكثر دقة وشمولية، وهو ما حاول سارتر فعله عندما اعتبر الوجود مع الغير تهديدا للذات ونفيا لها وسلبا لممكناتها الخاصة شانه في ذلك شان هايدغر لكنه يضيف بالمقابل أن علاقة الأنا بالغير لا تقف عند مستوى التهديد فقط بل تتجاوز ذلك إلى الإغناء أيضا لان الغير- وإن كان يتملكني بنظرته في صميم فعلي فيحولني إلى موضوع مستلب – فهو مع ذلك شرط أساسي لوجودي ولمعرفتي بنفسي، وقد وضح سارتر هذا التصور المزدوج للوجود مع الغير انطلاقا من مثال النظرة التي اعتبرها بمثابة البنية الأساسية لعلاقة الأنا بالغير، وتجسيدا لعلاقة الصراع بينهما. إذ في تجربة الخجل أو الكبرياء مثلا يشكل حضور الغير تشييئا للأنا وشلا لحريتها وتجميدا لممكناتها الخاصة واستلابا لعفويتها وتلقائيتها، بحيث تصبح موضوعا مستلبا يعيش على حرية غير حريته،لكنها حرية ضرورية من اجل أن تعي كل ذات ذاتها بوصفها وجودا حرا متعاليا، وتأكيدا لنفس الموقف التوفيقي يعتقد هيجل بدوره أن وجود الغير شرط أساسي لوعي الذات بذاتها، فالأنا يوجد أولا وجودا مباشرا، أي وجودا طبيعيا حيوانيا، منغمسا في الحياة العضوية، وكل ما يكون متيقنا منه في هذا النمط من الوجود هو يقينه الذاتي، ما دام أنه مستقل عن الآخر، الذي لا يشكل بالنسبة إليه إلا موضوعا مثل باقي الموضوعات والأشياء. لكن الأنا يتجاوز هذا الوجود المباشر عبر عملية تقديم الذات أمام الغير، لأنه لا يسمو بيقين وجوده إلى مستوى الحقيقة إلا من خلال اعتراف هذا الغير به. غير أن هذا الاعتراف لا يمنح بشكل سلمي، وإنما يتم عبر صراع مرير يخاطر فيه الطرفان بحياتهما حتى الموت. لكن ما دام الموت الفعلي لا يحقق النتيجة المتوخاة، وجب استسلام أحد الطرفين إيثارا للحياة على الموت وبموجب هذا الاستسلام يتحول أحدهما إلى سيد والآخر إلى عبد، ومن دون هذا الصراع الذي يهددهما معا، ما كان لأي كائن بشري أن يحقق وعيه بذاته.

يبدو مما سبق أن الغير يطرح نفسه كضرورة انطولوجية بالنسبة للانا، غير أن الوجود معه في الحياة اليومية المشتركة يؤسس لسلسلة من العلاقات المعقدة والمتداخل يصعب حصرها في جانب واحد دون آخر، إذ في الوقت الذي دافع فيه البعض عن التهديد واعتبره السمة المميزة للوجود مع الغير(هايدغر) نجد آخرين اعتبروا هذا الوجود المشترك إغناء للذات سواء من خلال الصداقة في بعدها الأخلاقي ( كانط) أو من خلال تجربة التواصل (ميرلوبونتي)، غير أن هناك من حاول النظر للوجود مع الغير في بعده الشمولي معتبرا إياه و جودا مزدوجا يستحيل اختزاله في الاغناء فقط أو التهديد فقط، لان الغير يهددني لكنه في الوقت نفسه شرط أساسي لوجودي و لمعرفتي بنفسي (سارتر و هيجل).

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(موافق) #days=(20)

يستخدم موقعنا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. تعرف أكثر
Ok, Go it!