مفهوم التاريخ: بشرى الهديلي

سعيد إيماني
بواسطة -
0


مفهوم التاريخ للأستاذة بشرى الهديلي

الإنسان كائن تاريخي بامتياز، ليس فقط لأنه يعيش ضمن الزمن ويتأثر بمساراته، بل لأنه يساهم في تشكيل هذه المسارات وصياغة وقائعها. إن القول بأن الإنسان "كائن تاريخي" يرفض فكرة الجمود والثبات التي تنفي طبيعة الإنسان المتطورة والمتفاعلة. فالإنسان ليس كائناً مستقلاً بذاته فحسب، بل هو جزء من شبكة معقدة تربطه بالمحيط الطبيعي والاجتماعي، حيث يلعب دوراً فاعلاً في التأثير والتأثر.

هذا التفاعل الجدلي بين الإنسان والتاريخ يجعل الإنسان محور الأحداث ومحرّكها الأساسي. فمن خلال وعيه وإرادته، ينخرط الإنسان في مجرى التاريخ وصيرورته، ليس فقط كمراقب أو متلقٍ سلبي، بل كفاعل يبتكر ويبدع ويواجه التحديات. وبما أن الإنسان يمتلك العقل والإرادة، فإنه لا يكتفي بأن يكون جزءاً من التاريخ، بل يسعى أيضاً إلى فهمه وجعله موضوعاً للمعرفة المنظمة والموثقة.

لقد أضفى اكتشاف الكتابة بُعداً عميقاً على مفهوم التاريخ. قبل الكتابة، كانت الذاكرة الجماعية هي الوسيلة الوحيدة لنقل الخبرات والمعارف، ولكنها كانت عرضة للنسيان والتحريف. مع اختراع الكتابة، تغيرت هذه المعادلة جذرياً؛ إذ أصبح بالإمكان توثيق التجارب البشرية ونقلها عبر الأجيال والأزمنة، مما أتاح بناء جسور متينة بين الماضي والحاضر والمستقبل. لهذا السبب، يعتبر البعض أن الكتابة هي انتصار للإنسان على عائق الزمن، حيث استطاع من خلالها تجاوز حدود الحاضر وربط الأزمنة ببعضها البعض.

لكن مع هذه الإمكانيات، يبرز السؤال: 

ما أهمية التاريخ وكتابته تحديداً؟ ولماذا يجب علينا أن نهتم بمعرفة أحداث الماضي؟ 

الإجابة تكمن في أن التاريخ ليس مجرد تراكم للوقائع، بل هو علم يبحث في كيفية حدوث تلك الوقائع ودوافعها وسياقاتها. المعرفة التاريخية تمنحنا فهماً أعمق للحاضر، لأنها تمكننا من التعرف على جذور الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. كما أنها تساعدنا على استشراف المستقبل من خلال فهمنا لأنماط التغيير والتطور عبر الزمن.

رغم ذلك، فإن التاريخ ليس مجرد سجل للحقائق، بل هو أيضاً مجال للتأمل الفلسفي. ومن هنا ينبثق سؤال فلسفي مركزي: 

هل الإنسان هو صانع التاريخ أم أنه خاضع له؟ 

إذا نظرنا إلى الإنسان ككائن عاقل وحر، يمكننا القول إنه يمتلك القدرة على صنع التاريخ من خلال قراراته وأفعاله. غير أن هناك عوامل وقوى أخرى، مثل الظروف الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية، تعمل أحياناً بمعزل عن إرادته، مما يجعله يبدو خاضعاً لها.

إن الحقيقة تكمن في تداخل هذين الجانبين: الإنسان فاعل وخاضع في آنٍ واحد. فهو يصنع التاريخ عندما يستخدم قدراته وإبداعه لتغيير واقعه وتحقيق طموحاته، لكنه في الوقت نفسه يتأثر بقوى أكبر منه، قد تحدّ من حريته وتوجه مساره. هذا التفاعل بين الحرية والحتمية هو ما يجعل دراسة التاريخ عملية معقدة ومثيرة للاهتمام.

لذلك، فإن فهم التاريخ يتطلب منا تبني منظور شامل يجمع بين التحليل النقدي للأحداث الماضية ودراسة الظروف التي شكلت تلك الأحداث، التاريخ ليس مجرد حكاية تُروى، بل هو أداة لفهم الإنسان ومكانته في هذا العالم. من خلال دراسة التاريخ، يمكننا أن ندرك أن الماضي ليس مجرد زمن انتهى، بل هو حاضر في كل تفاصيل حياتنا اليومية، يوجه قراراتنا ويرسم ملامح مستقبلنا.

في النهاية، يبقى الإنسان كائناً تاريخياً بامتياز، لأنه الكائن الوحيد الذي يعي وجوده في الزمن. هو من يحاول دائماً فهم مساره وتصحيح أخطائه وصنع معاني جديدة لحياته. إن أهمية التاريخ تكمن في أنه يفتح أمامنا أبواب الفهم والتأمل، ويمنحنا الأدوات اللازمة لاستيعاب تعقيد التجربة الإنسانية. بهذا المعنى، يمكننا القول إن الإنسان، رغم كل القيود، يظل صانعاً للتاريخ ومهندساً لحاضره ومستقبله.

يمكنك تحميل الملف من الرابط أسفله:
أو

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(موافق) #days=(20)

يستخدم موقعنا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. تعرف أكثر
Ok, Go it!