مفهوم الحقيقة بقلم الأستاذ: محمد بنعبو
دلالة المفهوم وإشكالياته:
يدل مفهوم الحقيقة على الشيء الواقعي الموجود وجودا فعليا في العالم الخارجي، وعلى كل ما هو ثابت ومستقر ويقيني، وتقابل كل ما هو متحول وزائل. وتدل أيضا على الحق والصدق و مطابقة الفكر لموضوعه، أو ما تمت البرهنة عليه أو ما شهد به الشاهد الذي يتكلم عما رآه أو ما سمعه… وهي بهذا المعنى ليست واحدة، حيث يمكننا الحديث عن الحقائق ضمن مجالات متعددة: دينية، سياسية، اجتماعية، علمية... كما يمكن أن تكون أحيانا ملتبسة وغامضة، خصوصا عندما تخرج عن تطابقها مع الواقع وتلتصق بالوهم والخداع والأحلام والسراب، فيصير كل ما هو حقيقي ليس بواقعي وكل ما هو واقعي ليس بحقيقي، لهذا يأتي البحث عنها متعددا ومتنوعا من لدن الإنسان حتى صارت ضالته وغايته الأبدية التي يسعى نحو العثور عليها وامتلاكها.
ولعل نداء سقراط "اعرف نفسك بنفسك" لخير دليل على سعي الإنسان الدائم نحو الحقيقة حاملا شعار "كل ما أعرف هو أنني لا أعرف شيئا"، وهذا أصدق مثال على لهفة الإنسان المستمرة وراء الحقيقة، هذا الهدف الذي رافق الإنسان ولا يزال في الماضي والحاضر والمستقبل.
من خلال ما سبق، يتبين أن مفهوم الحقيقة يتأرجح بين عدة مدلولات، وهذا ما يتيح لنا مقاربته من خلال ثلاث إشكاليات أساسية:
- الرأي والحقيقة: كيف يتعرف الإنسان على الحقيقة، هل عبر العقل أم الرأي أم أن هناك مصادر أخرى لبلوغها؟
- معايير الحقيقة: على ماذا يمكن أن تتأسس الحقيقة؟ وما هي معايير صدقها؟
- الحقيقة بوصفها قيمة: من أين تستمد الحقيقة قيمتها؟ و لماذا نرغب في الحقيقة، هل لغاية في ذاتها أم لما يترتب عنها من منفعة ومصلحة؟
1- الرأي والحقيقة
تعتبر الحقيقة هدف كل بحث معرفي و تأمل عقلي، و لدلك يمكن أن تلبس لبوسا وتتخذ أشكالا:إما رأيا أو نضريه أو موقفا،لهدا فالحديث عن الحقيقة يتنوع ويتعدد بتعدد أنواعها وأشكالها ومظاهرها، فهي تارة حسية وأخرى عقلية وثالثة حدسية، مرة تبدو مطلقة ومرة أخرى تبدو نسبية، لهدا يلزم طرح قضية معايير الحقيقة أمام البحث والمساءلة حتى يصبح موضوع الحقيقة كونيا وشاملا وتصبح الحقيقة بذلك أرضية عامة ومشتركة للحوار والتفاهم بين الجميع، وإذا كانت الحقيقة هي ما أشرنا إليه أعلاه فما هو الرأي ؟ وما علاقته بالحقيقة ؟
الرأي -عادة- هو انطباع شخصي يكونه الفرد بناءا على إدراكه إلى المباشر، ومن ثمة فهو يعكس التجربة العامية والمشتركة بين الناس من أفكار واعتقادات قد يكون في غالبها إما خاطئة أو صحيحة أو ساذجة... ولذلك فهو"الرأي" ليس ناتجا عن تفكير أو تأمل عقلي مما قد يجعله عائقا يحول دون تكوين معرفة حقيقية، لهذا نواجه بالتساؤلات التالية:
كيف يمكن بناء الحقيقة بتخلصها من بادئ الرأي أو الرأي المشترك؟ ما هي المعايير التي يجب أن تتوفر في معرفة ما لكي تصبح حقيقة؟
بعبارة أخرى نجد كلمة حقيقة تستعمل في سياقات مختلفة، لكنها تبدو هشة عندما تقدم إلينا بوصفها مجرد رأي أو فكرة، وبالمقابل تبدو صلبة وثابتة عندما تصدر عن العقل ويتم بناؤها من خلال مفاهيم واضحة ومحددة ومنهجية صارمة. فأمام هذا التعارض بين الرأي والعقل في معرفة الحقيقة وبلوغها، كيف يتعرف الإنسان على الحقيقة، هل عبر العقل أم الرأي أم أن هناك مصادر أخرى لبلوغها؟ ما قيمة الرأي في تأسيس الحقيقة ؟هل يعتبر الرأي أداة للوصول إلى الحقيقة أم عائقا أمامها؟
موقف باسكال:
يرفض باسكال التصور العقلاني (الديكارتي مثلا) الذي يقول بأن العقل هو المصدر الوحيد لبلوغ الحقيقة، كما يرفض النزعة الشكية التي تحد باستمرار من المزاعم الوثوقية للعقل دون أن تقدم حلا للإشكالات المطروحة بصدد الحقيقة، فالعقل لا يمكنه معرفة كل شيء، ولا يمكنه أن يحتكر الحقيقة أيضا، بل هناك طرق أخرى لتحصيل الحقيقة مباشرة كالقلب أو الآراء الخاصة، دونما حاجة إلى الاستدلال العقلي، الذي ينبغي عليه أن يؤسس خطابه بالكامل على هذه المعارف الصادرة عن القلب والغريزة، حيث يقول: "للقلب أسبابه التي لا يعرف عنها العقل شيئا"، فالقلب حسب باسكال هو مصدر الشعور المباشر للمعارف التي يمكن للعقل فيما بعد الاستدلال عليها. وبالتالي لا يمكن القول إن العقل وحده هو مصدر الحقيقة بل هناك طرق أخرى تؤدي إليها كالقلب أو الوجدان أو الآراء.
موقف باشلار:
يعتبر الرأي حسب باشلار أول عائق يمكن أن يقف في طريق تحصيل الحقيقة العلمية، لأنه يتعارض مع العلم لكونه غير قابل للتبرير أو التسويغ، لذلك فهو مبدئيا يعبر عن خطأ، ومن الخطأ الاعتماد عليه في بناء وتأسيس الحقيقة، لذلك وجب هدمه واستبعاده وتجاوزه.
إن كل معرفة علمية تحمل في ذاتها عوائق إبستيمولوجية تؤدي إلى أخطاء لا يتم التخلص منها بسهولة، وأول هذه العوائق هو بادئ الرأي أو الظن. فالرأي مبني على الاعتقادات الرائجة لدى جمهور الناس، وهذه الاعتقادات تترجم حاجاتهم إلى معارف وحقائق تخدم حياتهم، لكونها قائمة على منفعة يتم التصديق بها، لكنها لا تفيد في بناء معرفة دقيقة ومؤسسة ومتماسكة، لهذا فالعلم (أي:المعرفة/ الحقيقة) حسب باشلار مطالب بالتحرر من أخطائه والتخلص من الانطباعات والاعتقادات وإحداث قطيعة معها، والحال أن تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم، كما يقول غاستون باشلار دائما، وهذه الأخطاء يتم تصحيحها وتجاوزها، فالمعرفة العلمية الموضوعية لا تعطى ولا تقوم على الرأي والتمثلات، بل تبنى وتشيد.
موقف ليبنتز
تحليل النص ص 105 بالنسبة للآداب و العلوم الإنسانية ص 65 بالنسبة للعلوم
على خلاف ما تقدم، فان الفيلسوف الألماني ليبنيتز يعتبر أن الرأي رغم كونه احتماليا وغير يقيني إلا أنه يقوم بوظيفة أساسية في تطور العقل البشري وبدور توري في مجال تاريخ الأفكار الإنسانية، حيث يقول: "إن الرأي القائم على الاحتمال قد يستحق اسم المعرفة وإلا سوف يتم إسقاط كل معرفة تاريخية وغيرها من المعارف..."
وهكذا، فلبينتز يدعم فكرة قيام المعرفة على الرأي والاحتمال، لذلك نجده يقول :"عندما لا نستطيع أن نجزم في مسالة ما بشكل قطعي فانه بإمكاننا أن نحدد درجة الاحتمال انطلاقا من المعطيات المتوفرة، ومن ثم نستطيع أن نحكم بطريقة عقلانية على الجزء الأكثر جلاء"
فالاحتمال يساهم بشكل ايجابي في تطور انساق العقل البشري الذي يتأسس ويتكون من أفكار ومفاهيم وتصورات أغناها الرأي الاحتمالي وحولها إلى معارف إنسانية وعلمية ذات مصداقية.
موقف ايمانويل كانط 1724- 1804
(انظر النص ص 145 بالنسبة للآداب و العلوم الإنسانية ص 64 بالنسبة للعلوم
غير بعيد، وضمن نفس السياق سيسير الفيلسوف الألماني كانط حيث يقول في كتابه "نقد العقل الخالص" أنضر النص ص 104: "يمثل الاعتقاد- أو القيمة الذاتية للحكم في علاقته باليقين الذي يتوفر في الوقت ذاته على قيمة موضوعية- ثلاث درجات: هي الرأي الإيمان، المعرفة. الرأي هو اعتقاد يعي بأنه غير كاف ذاتيا وموضوعيا، وعندما لا يكون الاعتقاد كافيا سوى من الناحية الذاتية وفي الوقت ذاته يعتبر غير كاف من الناحية الذاتية ومن الناحية الموضوعية- يدعى المعرفة. فالاكتفاء الذاتي يسمى اعتقادا راسخا(بالنسبة لي)، أما الاكتفاء الموضوعي فيسمى يقينا (بالنسبة لكل واحد…) لا استطيع أن أكون رأيا بالصدفة ما لم تكن لذي معرفة مبنية على حكم تربطه بالحقيقة صلة ولو كانت غير مكتملة."
من خلال هذه الفقرة يتضح أن الفيلسوف الألماني ورائد النزعة النقدية إيمانويل كانط يحاول توضيح طبيعة العلاقة بين الرأي والحقيقة والمعرفة من زاوية منطقية، أي من منظور العقل الخالص وطريقته في بناء وإصدار لأحكام، وهكذا فكانط يعبر عن موقفه من الرأي معتبرا إياه أول خطوة نحو بناء معرفة يقينية، فطريق المعرفة بالنسبة له يبدأ من الرأي وينتهي بالحقيقة مرورا بالاعتقاد أو الإيمان باعتبار عدم الاكتفاء بالأسباب الذاتية أو الموضوعية، بل ضرورة اعتماد منطق العقل وأيضا التجربة -الحس- لبناء أي معرفة، والوصول إلى الحقيقة
هكذا، فكانط يرى في الرأي منطلق إنتاج المعرفة/ الحقيقة. فالرأي في نظره درجة من درجات المعرفة و ليس نقيضا لها، و طريق المعرفة بالنسبة له - من حيث بنائها وتكوينها- يبدأ من الرأي مرورا بالاعتقاد وصولا إلى الحقيقة، باعتبار أن الرأي يتحول إلى حقيقة يقينية ضرورية وكونية.
موقف أبو نصرالفارابي( 870 950)
في إطار تحديد علاقة الرأي بالحقيقة يرى أبو نصر الفارابي أن طبيعة العلاقة بينهما هي علاقة تناقض، باعتبار أن بادئ الرأي لا يمكن أن يتحول إلى حقيقة علمية، لهذا وجب الفصل بينهما، ما دام أن بادئ الرأي مثله مثل الخطابة والشعر وحفظ الأخبار واللسان والكتابة وهي معارف عامية ومشتركة بين جميع الناس ولا تستدعى البحث أو التحليل أو التمحيص أو التدقيق، كما لا تتطلب دراسة بالضرورة، ولا تخضع للدليل والبرهان العقلي عكس الحقيقة الفلسفية البرهانية العقلية الاستدلالية والحقيقة العلمية (كالرياضيات مثلا).
نستنتج مما سبق، مدى أهمية وغزارة الطابع الإشكالي لعلاقة الحقيقة بالرأي، وذلك أن الحقيقة العلمية كبناء منهجي كلما صدرت عن العقل بالاعتماد على مفاهيم واضحة ومحددة ومنهجية دقيقة وصارمة كلما دقيقة وقوية وثابتة، لكنها كلما كانت عبارة عن مجرد رأي أو وجهة نظر كلما كانت هشة وقابلة للهدم والزوال.
لكن ومع ذلك، فإنه ليس من السهل أن يتخلص الناس من آرائهم ومعتقداتهم التي اعتادوا عليها وصدقوها وآمنوا بها لمدة من الزمن. لذلك يبقى من الصعب التجاوز والانتقال من مستوى الرأي إلى مستوى الحقيقة، بل إنه من الممكن أن يرد الناس، وفي كثير من الأحيان، بقوة وعنف على من يخالفهم الرأي أو يواجههم بحقيقة مخالفة مغايرة لآرائهم ومعتقداتهم والتي تختلف من شخص لآخر. وبذلك يمكن القول أن الرأي يقدم حقائق مؤقتة محكومة ومرتبطة بالشخص الذي تصدر عنه وكذا السياق الذي وردت ضمنه، على خلاف الحقائق العلمية (العقلية) كمعرفة حقة تقوم على البناء المنهجي الدقيق الصارم. فما هي إذن معايير الحقيقة؟ و كيف تتحدد؟
2معايير الحقيقة
إن علاقة الإنسان بالحقيقة وسعيه المتواصل نحو تحصيلها، قد خلف لنا على امتداد التاريخ معارف كثيرة اعتبرت حقائق، إذ تنوعت خطابات الحقيقة وتعددت، واختلفت أشكال بلوغها، مما يعني أن لكل حقيقة معاييرها وشروطها وأدوات إنتاجها، مما يدفعنا إلى التساؤل: على ماذا يمكن أن تتأسس الحقيقة؟ ما هي معايير الحقيقة؟ وكيف تتحدد؟ هل هي معايير منطقية أم مادية(نفعية)؟ هل تتحدد من خلال مطابقة الفكر لمبادئه أم من مطابقة الفكر للواقع؟ ما معيار صدقها؟ و من أين تستمد قوتها و مشروعيتها؟
المعيار هو النموذج الذي نقيس به المحسوسات أو المعقولات بهدف إصدار حكم معياري قيمي عليها حسب مدى مشاركتها فيه أو اقترابها منه، إذ كلما كانت مقتربة منه كان حكمنا عليها إيجابيا وكلما كانت مبتعدة عنه كان حكمنا عليها سلبيا. هكذا تبقى معايير الحقيقة متعددة ومختلفة بتعدد واختلاف المواقف الفلسفية والاتجاهات و التصورات التي أنتجتها،
موقف روني ديكارت:
لا يعترف ديكارت بقيمة المعرفة الحسية في بلوغ الحقيقة، لأن الحواس في نظره تخدع الإنسان وتنتج معرفة ظنية غير يقينية لا يمكن أن نثق فيها، بل الطريق الأساسي لبلوغ الحقيقة دون الوقوع في الخطأ يكمن في العقل وحده عبر الحدس والاستنباط، لأنهما الفاصل بين ما هو ظني ويقيني، وأساسا المنهج المؤدي إلى الحقيقة، فالحدس إدراك عقلي بديهي وفطري بسيط ومباشر بينما الاستنباط إدراك عقلي لكنه غير مباشر، يقود إلى حقائق مشتقة انطلاقا من مبادئ صادقة ومعلومة، شرط إتباع النظام الصارم للاستدلال الرياضي فيها. وبهذا فالحقيقة يتم التعرف إليها حينا بالحدس وحينا بالاستنباط، وكلاهما متكاملان ويقودان إلى البداهة واليقين والتميز التي هي معيار الحقيقة.
يقول ديكارت: "إن الحقيقة لا يمكن أن توجد إلا في العقل نفسه"، و هي ما ينتهي إليه الحدس والاستنباط وليس ما تعطيه الحواس، وذلك عبر إجادة استخدام العقل وإخضاع كل المعارف إلى قواعد المنهج الذي يحول دون وقوع العقل في الخطأ. ومن ثمة ما يبدو للعقل أنه يقيني فهو كذلك.
- الكذب:mensonge هو إخفاء الحقيقة عمدا، بخلاف الوهم illusionالذي يطلق على خطأ في الإدراك أو الحكم أو الاستدلال، فهو خطأ طبيعي. أما الخطأ erreur- faute فهو صد الصواب، بمعنى أن نحكم على شيء بأنه باطل وهو حق والعكس بالعكس. فالخطأ يكون في الحكم وليس في التصور.
- القواعد الاربعة للمنهج الديكارتي هي: البداهة،التحليل، التركيب، المراجعة.
- اليقين: certitude حالة العقل الذي يتبنى بشكل صارم كل ما يحكم بانه صادق .
موقف باروخ اسبينوزا
لقد استفاد العديد من الفلاسفة الكلاسيكيين من المنهج الديكارتي (في إدراك الحقيقة) القائم على معيار البداهة والتميز العقليين، كما هو الشأن بالنسبة للفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا الذي أكد بدوره أن البداهة هي معيار الحقيقة، وأن البديهي ليس هو ما يتبادر مباشرة إلى الذهن، بل هو الحقيقة التي يفرض نفسها على الذهن بوضوحها التام، باعتبار أن الحقيقة معيار ذاتها.
هكذا يؤكد سبينوزا على معيار البداهة والوضوح. فما يفرض نفسه على النظر لا يمكن حجبه لأنه يفرض نفسه بوضوحه التام. ويعتبر الحقيقة معيار ذاتها لأنها كالنور يمكن رؤيتها كلما كانت موجودة وواضحة. أي أن ما يدركه العقل على أنه حقيقة فهو ليس في حاجة للإثبات أو للاحتكام الى الواقع والتجربة...
موقف ليبنتز:
(انظر النص ص 108 بالنسبة للآداب، والعلوم الإنسانية، وص 68 بالنسبة للعلوم، الكتاب المدرسي منار الفلسفة)
على عكس ما ذهب إليه الاتجاه العقلاني الكلاسيكي (ممثلا في ديكارت أو اسبينوزا)، سنجد أن الفيلسوف الألماني ليبنتز ينتقد بشدة موقف ديكارت للحقيقة القائم على معياريي البداهة (الوضوح) والتميز، وسيعترض على هذا المعيار، حيث يرى ليبنتز في مقابل ذلك أن الحقيقة تعتمد على المنطق والبرهان من أجل الفصل بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي وعزل وتمييز الصواب عن الخطأ.
موقف كانط:
(أنظر النص ص 109 بالنسبة للآداب، والعلوم الإنسانية، وص 68 بالنسبة للعلوم من الكتاب المدرسي منار الفلسفة)
الفيلسوف الألماني ايمانويل كانط انتقد النزعتين معا: العقلانية والتجريبية لأن كلا منها يعتمد على أداة واحدة في بناء الحقيقة: إما العقل أو التجربة. أما كانط فيرى أن المعرفة الحقيقة اليقينية لا تكون بالحس وحده ولا بالعقل وحده، وإنما بهما معا. لأنها نتاج تكامل وتضافر بين العقل والحس. فالحقيقة هي مطابقة الفكر لمبادئه وللواقع. إنها إنشاء وبناء عقلي، ومن تم فهي انتظام الواقع وفق بنية الفكر ونظامه القبلي المتعالي. بل إن كانط في إطار بحثه في مسألة المعيار الكوني للحقيقة وتساؤله عن إمكانية وجود مثل هذا المعيار، يرفض وجود معيار كوني للحقيقة المادية يتجاوز الاختلاف بين الموضوعات ولا يميز بينها ويصلح لكل موضوع بشكل عام، باعتبار أن هذا الأمر متناقض في حد ذاته، لأنه يستخدم كمعيار مادي للتمييز بين الموضوعات. وفي المقابل، يقبل كانط بوجود معيار كوني صوري إذا كان يتطابق مع مبادئ العقل. لأن الحقيقة الصورية تكمن في مطابقتها لذاتها، بغض النظر عن الموضوعات وعن أي اختلاف بينهما، باعتبار أن هذه المعايير الصورية والكونية للحقيقة هي المعايير المنطقية والكونية بل هي القوانين الكونية للفهم وللعقل التي تقوم عليها المطابقة بين المعرفة وذاتها.
فكيف تتحدد الحقيقة باعتبارها كقيمة؟ هل هي غاية في ذاتها أم أنها مجرد وسيلة لتحقيق مصالح و منافع تخدم الإنسان؟
3 الحقيقة بوصفها قيمة:
إن علاقة الحقيقة باللاحقيقة يكشف عن توتر انطولوجي يرتبط بها بوصفها قيمة، فهي بقدر ما يروم الناس إليها، بقدر ما تقودهم إلى التيه والضياع، لكن رغم ذلك لا أحد يجادل في أن كل الفلاسفة يجمعون على أن السعي وراء الحقيقة فضيلة… وهذا ما يؤكد أن للحقيقة قيمة تجعل الناس يسعون نحوها لبلوغها وتحصيلها. فلماذا إذن نرغب في الحقيقة؟ هل لغاية في ذاتها أم لما يترتب عنها من منفعة ومصلحة؟
يتبين من معالجة هذا الإشكال أن الحقيقة قيمة عليا يرغب فيها جميع الناس، ويسعون إليها، ويتخذونها مثلا أعلى سواء على المستوى النظري الفكري، أو العلمي التطبيقي، أو السلوكي الأخلاقي، حيت تختلف المواقف الفلسفية وتتباين، فكيف ذلك؟ هل الحقيقة إذن بما هي قيمة تحمل قيمتها في ذاتها أم في نتائجها؟ بمعنى آخر هل قيمة الحقيقة تتعالى على كل اعتبار ذاتي ومن ثمة فهي كونية ومطلقة؟ أم الحقيقة تكمن في مدى تناسبها مع حياة الناس ومصالحهم الآنية ؟
إن الحقيقة من حيث هي قيمة اعتبرت مند القديم إلى اليوم، ومع العديد من الفلاسفة من أمثال أفلاطون وأرسطو وسقراط وديكارت قيمة معرفية كونية،غاية في ذاتها، يتم بلوغها وإثباتها بالحجة والبرهان العقلي والمنطقي، لذاتها وليس لأجل لمنفعة شخصية، حيث كان الفيلسوف اليوناني سقراط يجوب شوارع أتينا ويحاور الناس لمقاومة أخطاء وأوهام عامة الناس ومغالطة السفسطائيين، باحثا عن الحقيقة بكل تضحية وشجاعة فكرية.
موقف كانط:
تعتبر الحقيقة حسب كانط غاية في ذاتها، معتبرا أنها مرادفة للقول الصادق الحق، وبهذا فشيوع الحقيقة بين الناس ضمانة كافية لحفظ التفاعل والتماسك وسيادة الاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع الواحد، وبين الإنسانية جمعاء، يقول كانط: "من مقتضيات العقل المقدسة والضرورية أنه ينبغي على الإنسان أن يكون صادقا في تصريحاته وأقواله" حتى وإن أساءت الحقيقة للذات أو للغير، وفي المقابل يعتبر الكذب رذيلة، ومن يكذب مرة واحدة لمصلحة ما يعتبر مخلا بالواجب الأخلاقي الذي تحدث عنه كانط، يقول: "فالكذب مسيء للغير دائما حتى وإن لم يسئ إلى إنسان بعينه، فهو يسيء إلى الإنسانية جمعاء"، وبالتالي فالحقيقة واجب أخلاقي بل هي أوجب الواجبات، وغاية في ذاتها وليست ملكا لأحد، ولا يجب أن نميز بين من لهم الحق في معرفتها ومن ليس لهم الحق في ذلك، فالحقيقة"واجب مطلق يسري في جميع الظروف والملابسات".
إن ربط الحقيقة بالمنفعة عند كانط غير ممكن وذلك لسببين: أولهما أن الحقيقة ستصبح نسبية، وفي هذه الحالة ستختلط الحقيقة بنقيضها. وثانيهما أن الحقيقة الأخلاقية على وجه الخصوص إذا ما اعتبرناها نفعية فإننا قد نتشبث باللاحقيقة لمجرد أنها نافعة فنرتكب كثيرا من الشرور، فليس الانسان مقياس كل شيء، لأن الحقيقة وإن كانت مرتبطة بالانسان فإنها مشروطة بالواجب الأخلاقي. وهو واجب كلي وكوني لا يستثنى منه أي إنسان. فما يضر الفرد يضر الجماعة، وما ينفعه ينفعها أيضا. الأمر الذي يجعل الحقيقة واحدة، ومطلقة وثابتة ومن تم يستحيل أن تنقلب إلى نقيضها.
تكون للحقيقة قيمة معنى ذلك أنها ما يرغب فيه الإنسان و يسعى إليه نحوه بقصد أو بغير قصد سواء على مستوى الفكر النظري أو الممارسة العملية أو بسلوك الأخلاق، و إذا كانت الحقيقة من حيث هي قيمة فكرية وأخلاقية فقد اعتبرت في الفلسفة الكلاسيكية غاية في حد ذاتها و بالتالي كان التفكير الفلسفي يعتبر بحثا عن المعرفة و الحقيقة المجردة عن كل منفعة أو مصلحة.
موقف ويليام جيمس: الفلسفة البراغماتية
على خلاف الموقف الإنساني والأخلاقي الرفيع كما هو عند كانط، فإن النزعة البراغماتية في الفلسفة المعاصرة قد أفرغت الحقيقة من كل محتوى أخلاقي مثالي، وجعلتها مجرد قيمة عملية ووسيلة لتحقيق المنفعة، حيت يقدم ويليام جيمس رؤية نفعية للحقيقة ويؤكد أن الأفكار لا تحمل في حد ذاتها أية قيمة خاصة، بل تستمد قيمتها من صلاحيتها الخارجية بحيث أن القيمة الحقيقية تقاس بمدى المنفعة والفائدة التي ستفيدها الإنسان من العمل الذي يقوم به بعد تنبيه لفكرة ما. وبذالك فمعيار الحقيقة هو الحكم العقلي حيت رفض ويليام جيمس أن تكون الحقيقة هي مطابقة الأفكار للواقع، وإنما معيارها هو العمل المنتج والنافع والمفيد للناس جميعا والنافع لهم في حل مشاكلهم وما يحقق لهم أهدافا علمية. فالحقيقي هو ما ينفع الإنسان والباطل هو ما يضر به، نظرا لارتباط الحقيقة بالمنفعة والعمل والمردودية، وبالواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، إذ يقول: "يقوم الصحيح بكل بساطة في ما هو مفيد لفكرنا ,والصائب في ما هو مفيد لسلوكنا". لهذا يمكننا أن نلاحظ أن هذا الأمر قد يؤدي إلى النسبية والاختلاف في تحديد الحقيقة. لأن ما هو نافع بالنسبة لشخص قد يكون ضارا بالنسبة لغيره، وما هو نافع للتجربة الحالية قد لا يكون بالضرورة وبنفس الدرجة نافعا لتجربة لاحقة، الشيء الذي يعطي للحقيقة بعدا لا أخلاقيا ولا إنسانيا، ويجعلها مجرد أفكار بسيطة تتغير حسب مصالح الناس ومنافعهم.
كير كيغارد
يؤكد الفيلسوف كير كيغارد أن الحقيقة قيمة أخلاقية وفضيلة قبل أن تكون مجرد قيمة معرفية، إنها غاية في ذاتها، لكنها غاية ليست بعيدة عن شرط وجود الإنسان. فالحقيقة لا تنتقل إلى الإنسان من الخارج بل هي موجودة فيه أصلا، إنها فضيلة بالمعنى السقراطي ومن طبيعة أخلاقية.
موقف نيتشه: 1844 1900
يرى نيتشه أن الوهم أخطر من الخطأ، لأنه يصعب اكتشافه بسهولة نظرا لما يحققه من الرغبات الوجدانية والنفعية للإنسان التي تؤمن للإنسان حفظ بقائه واتقاء شر الآخرين. مما يدفع بالإنسان إلى استخدام العقل من أجل إنتاج الوهم لأن الحقيقة قاتلة، ومن بين هذه الأوهام التي يعتنقها الضعفاء مثلا لدفع جبروت الأقوياء تلك القيم الأخلاقية التي ترفع كشعارات تعويضية، كالصبر والتعاون والعدل والسلام والتضامن... "إنها أوهام نسي الإنسان أنها أوهام" كما يقول نيتشه، وتعتبر اللغة الأداة الأساسية التي يعتمد عليها الإنسان في صناعة الوهم، لأنه من طبيعة استعارية ومجازية. هكذا يكون الوهم لصيقا بالحياة البشرية لأنه يضمن للإنسان الاستمرار والبقاء.
نيتشه يؤكد من خلال بحثه في أصل الحقيقة وغايتها أنها قيمة وجودية في خدمة الحياة ونموها وتطورها وأنها مجموعة من الأوهام نسي الإنسان أنها كذلك وثبت نفعها وجدواها في حياته، وتظهر قيمتها في ترسيخ الشروط الضرورية لحفظ بقائه. إنها مجموعة من الاستعارات والكنايات والتشبيهات، أي أوهام. بل إن رغبة الإنسان في أن يعيش مع الآخرين داخل المجتمع، تدفعه إلى مسالمة الغير لان انتشار السلم بين الناس يتم معه تثبيت وإقرار ما ينبغي أن يكون حقيقة، وما يترتب عنها من عواقب ممتعة وحميدة، أي تلك التي تحفظ الحياة بتحويل الأوهام إلى حقائق، فالوهم أقوى من الخطأ. وإذا كان من الممكن اكتشاف الخطأ وتصحيحه فإنه من الصعب التخلص من الوهم، لأنه موضوع رغبة من طرف الإنسان أكثر مما هو نتيجة لسوء استخدام العقل، بل إنه لا وجود في نظر نيتشه للتعارض بين الحقيقة والوهم إنها تختفي وراءه، والكشف عنها يقتضي بالضرورة المرور عبر الوهم. كما أنه من المستحيل وجود الحقيقة دون وجود الوهم. لأنها لا تشتغل بمعزل عن أضدادها كاللاحقيقة مثل الكذب الوهم والخطأ والتيه، الذي هو جزء من ماهية الحقيقة كما يؤكد ذالك الفيلسوف الألماني مارتين هايدغر ولا يمكنه تجنبه.
خلاصة
الحقيقة رهينة الزمان والمكان والأشخاص الذين يعيشونها، والمهم هو الإقرار بحق الجميع في امتلاك حقائقهم، فلكل منا الحق في امتلاك حقيقته وعيشها، من دون أن يمنع الآخرين من الحذو حذوه. لكن الحق في حقيقته شرط ألا يسخر من حقائق الآخرين، فليس هناك أخطر من الاعتقاد بأننا على حق وغيرنا على باطل، ليس هناك أخطر من رفض مشاركة الآخرين حقهم في امتلاك حقائقهم، وليس هناك من خطر قد تتعرض له الحقيقة نفسها أشد من خطر الدوغمائيين الذين ينصبون أنفسهم حماة للحقيقة ومدافعين عنها، محولين كل من يخالف حقائقهم إلى أعداء لهم. ولا يعي هؤلاء أن الحقيقة لا تظل حقيقة بل تنتهي إلى باطل. ألم يعش العالم أجمع حتى القرن السادس عشر حقيقة أن الأرض ثابتة والشمس هي التي تدور؟ وحتى ذلك القرن أيضاً، ألم يعش العالم حقيقة أن الأرض منبسطة وليست كروية؟ وغيرها الكثير مما كان يعتقد أنه حقيقة. فإذا بالعالم يصحو على أنه عاش قروناً على ضلال. ثم من قال إن الحقيقة تحتاج إلى من يدافع عنها؟ فالحقيقة هي الحقيقة .
مفاهيم:
- صورية: ضد مادية،تعني التركيز على مطابقة الفكر لداتة دون الاهتمام بمطابقته للواقع المادي.
- القيمة: لغة تطلق على ما هو جدير بالاهتمام والعناية لاعتبارات متعددة ، أهمها ما يتميز به الشيء ذو القيمة من صفات تجعله مطلوبا.
- العائق: هو مفهوم مركزي في ابستيمولوجية كاستون باشلار، وهو عبارة عن عقبات تعترض الفكر العلمي على امتداد تاريخه سواء تعلق الأمر بأفكار خرافية أو أحكام أخلاقية أو آراء غير علمية
- البداهة: هو ما لا يمكن عموما أن يكون موضع شك، فيفرض نفسه على الذهن ويدفعه إلى الأخذ به وقبوله بصورة مباشرة، لكونه يحمل في ذاته وضوحا يقينيا لا غموض ولا التباس فيه و لا يحتاج إلى إثبات أو برهان.
- البرجماتية: مذهب فكري فلسفي يرى الحقيقة ذات علاقة مع التجربة البشرية، فالمعرفة أداة العمل والفكر له صبغة غائية، فحقيقة فكرة ما تكمن في نفعها ونجاحها.
- البرهان: إستنتاج يقيني، أي انتقال من مقدمات يقينية بذاتها أو مسلمة بوصفها كذلك، إلى نتائج يقينية وفقا لقواعد المنطق ومبادئه ( الهوية، وعدم التناقض...إلخ)
- الحدس: الإدراك المباشر للحقيقة، أو للحقيقة المفترضة، من غير ما استعانة بأية عملية عقلية واعية. ويطلق المصطلح أيضا على الملكة التي يتم بواسطتها هذا الإدراك. وقد عرف الفيلسوف الفرنسي برغسون الحدس بقوله إنه الملكة التي نتمكن بها من رؤية الكون، مباشرة، بوصفه كلا منظما. سرعة انتقال الذهن من المبادئ إلى المطالب. أو بعبارة أخرى: الحدس هو الإدراك المباشر بدون تدخل وسائط. الصِدق: صفة للحكم على موضوع أو شيء ما، ويعني مطابقة الحكم لموضوعه.
