الحق والعدالة لأحمد جابر

سعيد إيماني
بواسطة -
0


دروس أحمد جابر 
الحق والعدالة
  • مدخل
  • الحق بين الطبيعي والوضعي
  • العدالة كأساس للحق
  • العدالة بين الإنصاف والمساواة
مدخل:
لعل الارتباط الوثيق للحق بالحياة الاجتماعية هو الذي يفسر كونه من أكثر الألفاظ شيوعا وتداولا في حياتنا اليومية بكافة مجالاتها. فالحق يأخذ معنى وجوديا أو أنطولوجيا عندما يستخدم للدلالة على "نصيب الذات" في شيء ما أو حقها الطبيعي في امتلاكه والاستفادة منه. كما يحمل الحق معنى الحقيقة والصواب في سياق دلالته المعرفية أو المنطقية، ويرادف بذلك اليقين أو المعرفة الحقة. ومن أبرز المعاني التي يحتوي عليها مفهوم الحق دلالته على مجموع القوانين التي تنظم العلاقات بين أفراد مجتمع معين، حيث يصبح مرادفا لمنظومة أو نسق من التشريعات التي يلزم الأفراد بالامتثال أو الخضوع لها (المعنى الاجتماعي -القانوني). غير أن الحق قد يتحدد أيضا فيما يسعى الإنسان إلى تحقيقه من قيم عليا تتجاوز ما هو مسطر في القوانين المدنية، فيغدو مثلا أعلى يعكس الطموح نحو الأفضل (المعنى القيمي-المعياري).

إن هذا العمق الدلالي يكشف عن المفارقات التي تسم مفهوم الحق بصورة تجعل منه مبدأ إلزاميا يمتثل بموجبه الأفراد لضوابط قانونية وظيفتها تكريس الأمر الواقع أو الحفاظ على النظام الاجتماعي القائم (العدالة الاجتماعية)، وقيمة عليا تعكس الطموح الإنساني في السعي نحو بلوغ الفضائل التي تقصر عن تحقيقها القوانين المدنية (العدالة الإنسانية)..لذلك يبدو أن تناول موضوع الحق يستلزم تحديد علاقته بالعديد من المفاهيم التي يتمفصل معها مثل العدالة – القانون – المساواة...

الحق بين الطـبيعي والوضـعي

في سياق الانشغال الفلسفي بمفهوم الحق بوصفه خاصية إنسانية، أثيرت مسألة الأساس الذي ينبني عليه الحق بهدف توفير المشروعية اللازمة للتشريعات والقوانين التي تنظم المجتمع البشري.فبأي معنى يكون الحق طبيعيا أو وضعيا؟ وهل يمكن اعتبار ما هو طبيعي -في الكون أو في الإنسان -مصدرا للحقوق، أم أن الحق يرتبط من حيث أساسه بعوامل اجتماعية ثقافية تمنحه طابعا وضعيا أو مدنيا؟

أفلاطون: لقد تميزت الفلسفة اليونانية بتصور خاص للحق يربطه بالقانون الطبيعي الذي يحكم نظام الكون. ومؤدى هذه الفكرة أن كل شيء من أشياء الطبيعة يحتل المنزلة المناسبة له وللنظام ككل، وذلك بصورة تجعل كل ظاهرة طبيعية تؤدي وظيفتها الخاصة ضمن النظام العام للكون الذي يحافظ بذلك على سيره الطبيعي. وقد استعار فلاسفة اليونان هذا المعنى من الطبيعة لتوظيفه في تحديد النظام الاجتماعي -السياسي الملائم، بحيث يصبح القانون المنظم لشؤون المدينة / الدولة قائما على نفس الأساس، وهو قيام كل فئة اجتماعية بالدور المنوط بها ضمن النظام العام للمجتمع بهدف الحفاظ على السير العادي للحياة داخل المدينة...

ويتجلى هذا التصور في الفكرة الأفلاطونية التي تقوم على تقسيم المجتمع إلى ثلاث طبقات تتفرغ كل منها لأداء وظيفة محددة تسمح بتحقيق الانسجام الذي هو أساس العدل. وبذلك تصبح المدينة بمثابة وحدة عضوية وكلية يضطلع فيها كل واحد بالوظيفة الاجتماعية المحددة له، حيث تختص فئة المنتجين في توفير الثروة، وفئة الحراس في ضمان الأمن والنظام، وفئة الحكماء في التسيير أو الحكم... (يوازي هذا التقسيم الاجتماعي قوى النفس الشهوانية والغضبية والعاقلة في فلسفة "أفلاطون") ...

هكذا ينطوي هذا التصور على اعتبار أن لكل فرد قدرات خاصة تؤهله لشغل وظيفة معينة دون سواها، الشيء الذي يستلزم التربية منذ الصغر لتوجيه الناس نحو ما ينتظرهم من مهام داخل "الجمهورية" التي رأى فيها "أفلاطون" أكمل شكل للنظام الاجتماعي -السياسي. وهذا ما يشير إليه في قوله: "العدالة هي ذلك النظام البديع الذي ينبغي بمقتضاه لمن ولد ليكون حذاء أن يقتصر على صناعة الأحذية، ولمن ولد ليكون نجارا أن يقتصر على النجارة، وبالمثل في بقية الصناعات".

توماس هوبز: اتجهت فلسفات العقد الاجتماعي إلى فرضية "حالة الطبيعة" التي كان عليها الناس قبل بروز المؤسسات والقوانين، وذلك بغرض التأكيد على "الطبيعة الإنسانية" كمرجعية ومصدر للقيم والقوانين بدلا من المرجعية الكونية (اليونان) أو الدينية (العصر الوسيط) ... وفي هذا السياق يرى "هوبز" أن ما يميز هذه الحالة هو الحرية والمساواة في التمتع بنفس الحقوق وعلى رأسها المحافظة على البقاء. ف"الحق الطبيعي" يرتبط بالحرية المطلقة لكل فرد في استعمال كافة الوسائل التي تضمن له الدفاع عن حياته الخاصة، مما يجعل حالة الطبيعة عبارة عن صراع أو اقتتال دائم تعبر عنه صيغة "حرب الكل ضد الكل"، ولا تعرف أي نوع من التعاون والتضامن على اعتبار أن "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"... غير أنه إذا كانت نتيجة التمسك بهذا الحق الطبيعي تمثل تهديدا للوجود البشري، فإن "قانون الطبيعة" يمنع الناس من القيام بما يقودهم إلى الهلاك. فهذا القانون الذي يشكل قاعدة أو مبدأ يدركه العقل البشري، هو الذي يملي على الإنسان الأسلوب الملائم للحفاظ على حقوقه الطبيعية، وهو التنازل عن الحرية المطلقة في التصرف والدخول مع الآخرين في حالة من السلم تقوم على تعاقد يتم بموجبه تخويل السلطة المطلقة لحاكم تكون مهمته الأساسية ضمان الحق الطبيعي في الحياة لكل الأفراد.

عموما، تقوم نظرية "هوبز" على اعتبار الحق الطبيعي أساس التعاقد الذي اضطر إليه الناس للإفلات من الإقتتال المستمر عبر تفويض أمورهم لسلطة حكم فردي مطلق أو لدولة قوية تشبه "التنين"...

جان جاك روسو: تكمن أهمية العقد الاجتماعي كما بلوره "روسو" في كونه قد أكد على الحرية والمساواة كحقوق أساسية تشكل جوهر التعاقد مما جعل تصوره أكثر اتساقا مع المبادئ التي تأسست عليها الديمقراطية في صورتها الليبرالية الحديثة... فهو يرى أن الإنسان خير بطبعه، وأن حالة الطبيعة اتسمت بالسلم عوض الصراع. غير أن ضرورة الاجتماع التي يحتمها عجز الفرد عن العيش بمفرده قد أدت إلى تعاقد تم بمقتضاه تنازل كل واحد لصالح الجماعة التي تمثلها الدولة كإطار ينظم ممارسة الأفراد لحقوقهم وعلى رأسها الحرية والمساواة والملكية، دون أن يعني ذلك خضوع الفرد لسلطة قسرية، لأن "من يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأحد" حسب تعبير "روسو". ومن ثم فإن انتقال الإنسان من حالة الطبيعة إلى المجتمع المدني يشكل تحولا هاما ترتبت عنه مكاسب أو مزايا تتمثل بالخصوص في تجاوز الحرية الطبيعية كحق يعكس الأنانية والانقياد للشهوة إلى الحرية المدنية والأخلاقية التي تعكس الإرادة العامة للأفراد في الامتثال لقوانين وضعوها بأنفسهم كما نجد في قوله : "إن الإنسان يكتسب من المجتمع المدني الحرية الأخلاقية، وهي وحدها التي تجعل الإنسان سيد نفسه، ذلك لأن سلوك الإنسان لو حكمته الشهوة وحدها فهذه هي العبودية، في حين أن الحرية هي طاعة القانون الذي نلزم به أنفسنا".

وبهذا المعنى تأخذ حقوق الإنسان صبغة مدنية أو وضعية بالنظر إلى كونها نتاج تعاقد مرجعيته إرادة عامة تلتمس المصلحة المشتركة وتسعى إلى الخير العام.

يتبين إذن أن أساس الحق يختلف باختلاف المنطلقات الفكرية وتباين الغايات التي تحكمها. فالفكر اليوناني اتخذ من نظام الكون مرجعية لتأسيس الحقوق وتشريع القوانين في "المدينة / الدولة" القائمة على تقسيم اجتماعي كان مفكرو اليونان ينظرون إليه ك "نظام طبيعي" نجده قد انعكس -بصورة مثالية- في جمهورية "أفلاطون" (موقف يعطي للحق معنى طبيعيا / كونيا)؛ بينما استثمرت فلسفات العقد الاجتماعي مفهوم الطبيعة الإنسانية (حالة الطبيعة) وفكرة التعاقد كأساس أو كمصدر للحقوق والقوانين من أجل قطع الصلة مع التصور الكنسي الذي يؤكد على المصدر الإلهي للحق، وذلك بصرف النظر عما يوجد من اختلاف بين منظري العقد الاجتماعي حول المضمون الطبيعي (هوبز) أو الوضعي/ المدني للحق (روسو).

العدالــة كأساس للحــق

تعتبر العدالة رديفا للحق وغاية له سواء كان معناها يتجه إلى المبدأ الذي يتمتع بمقتضاه الأفراد بما تخوله لهم قوانين الدولة أو أعراف المجتمع من حقوق، أو تم النظر إلى العدالة كفضيلة أو قيمة نسعى إليها لتجاوز ما يمكن أن نلمسه من قصور في القوانين الوضعية.فبأي معنى يمكن الحديث عن تحقيق العدالة باعتبارها شرطا لازما للحق؟

اسبينوزا: يعتبر أن ما يميز النظام الديمقراطي الذي يتأسس على القانون المدني هو التخلي عن الحرية الفردية التي تعبر عن الخضوع للشهوة العمياء لصالح التعايش الذي يحتكم للعقل، حيث يكون الفرد ملزما بأن يعيش وفق ما تحدده التشريعات الرسمية للدولة. وبناء على ذلك تتحدد العدالة في المساواة القانونية التي تقتضي أن يتمتع كل فرد بما يكفله له القانون المدني من حقوق، ويكون الظلم حرمانا له مما يستحقه. والدولة هي التي توكل إليها مهمة السهر على احترام وتطبيق القانون كشرط لبلوغ العدالة أو ضمان تحققها، بحيث أن انتهاك القانون قد يتم من طرف الأفراد ولكن خرقه من قبل الدولة يظل مرفوضا لأنه يقوض أسس العدالة ويؤدي إلى انهيار البناء الديمقراطي ذاته. فالدولة هي الجهة المؤتمنة على تحقيق العدالة التي تتجسد في مساواة قانونية تلزم السلطة القضائية بعدم التمييز بين الأفراد مهما كان موقعهم الاجتماعي... وبذلك تكون العدالة تجسيدا للحق الذي تمثله المنظومة القانونية للدولة بمعناها التعاقدي الذي يعبر عنه هذا الموقف.

إميل شارتيي (آلان): يؤكد على أن الحق رهين بالمساواة التامة بين جميع الأفراد وفي كل مجالات الحياة بصورة تفترض أن يكون كل سلوك تجاه الغير قائما على هذا المبدأ بدون اعتبار لأي اختلاف أو تمايز بين الأفراد من حيث سنهم أو جنسهم أو ذكائهم. فإذا كان معنى العدالة هو حصول الفرد على حقوقه في كل معاملاته مع الآخرين، فإن هذا المعنى لا يتحقق إلا إذا كان مقرونا بمساواة مطلقة تضمن عدم انتهاك حقوق أي طرف مهما كانت الحيثيات المحيطة بكل وضعية. ومن هذا المنطلق لا يستقيم الحديث عن العدالة بين بائع مخمور أو لا يعرف قيمة بضاعته وبين مشتر واع أو على دراية بالثمن، كما تنتفي العدالة عندما يتم استغفال طفل لا يدرك القيمة الحقيقية للأشياء من طرف من هو على علم بها. فالحق لا يوجد حيث تكون اللامساواة، مثلما أن العدالة لا تنبثق إلا في ظل سيادة مساواة تامة لا تقبل المفاضلة أو التمييز بين الأشخاص اعتبارا لكونهم رجالا أو نساء أو أطفالا أو جهالا. وبهذا المعنى لا تنحصر العدالة في ضمان الدولة مبدأ المساواة أمام قوانين مدنية، بل تأخذ مضمونا أخلاقيا أو إنسانيا يشترط مساواة تشمل كل العلاقات الممكنة بين الأفراد. (لابد من الإشارة إلى أن "آلان" قد عرف بميوله اليسارية المتطرفة التي دفعته إلى تبني موقف الحركة الراديكالية الداعي إلى جمهورية ليبرالية تكون تحت المراقبة الصارمة للشعب، وهو القائل بأن "الأخلاق تبدأ عندما تكف الشرطة عن الوجود").

وهكذا يتأكد أنه من المستحيل الحديث عن الحق بدون ذكر العدالة التي تمثل غايته الأساسية، سواء كان المنظور المعتمد يجسد العدالة في مساواة الأفراد أمام قانون مدني تكون الدولة "التعاقدية" مسؤولة على احترامه وتنفيذه (اسبينوزا)، أو كان يميل إلى إضفاء صبغة أكثر شمولية على معنى العدالة يجعلها مشروطة بالمساواة التامة بين كل الأفراد في جميع مجالات الحياة (آلان).

العدالة بين الإنصاف والمساواة

إذا نظرنا إلى العدالة المنصفة في علاقتها بالمساواة، فهل يكون معنى الإنصاف هو التعامل مع كل الأفراد على قدم المساواة بوصفهم متكافئين؟ أم أن العدالة- باعتبارها إنصافا-تقتضي مراعاة الإختلافات القائمة بين الأفراد من حيث القدرات أو المؤهلات؟

أرسطو: يرى أن العدالة ما دامت تمثل تطبيقا لما ينص عليه القانون الذي وضعه المشرع (مجلس الشعب) تظل في حاجة إلى فعل الإنصاف الذي يمكن من ملائمة المنطوق القانوني مع ما يفرضه الواقع من تنوع واختلاف. فالقانون عادة ما يتسم بعمومية تجعله قاصرا عن الإحاطة بكل الحالات الفردية أو الممكنة ولا يبلغ، بالنتيجة، ما هو مأمول منه في تحقيق العدل للجميع. ومن ثم يغدو الإنصاف مكملا للعدالة لأن وظيفته تتجلى أساسا في تكييف القوانين وتعديلها لتصبح صالحة لمعالجة كل القضايا سعيا وراء عدالة يستفيد منها كل الأفراد. وهذا ما يضفي على المنصف قيمة أفضل من العادل مادام دور الأول هو العمل على تجاوز ما قد يعتري القوانين من نقص بسبب عمومية الخطاب القانوني. ويحدد "أرسطو" المسطرة التي تسمح بتعديل القوانين في ضرورة اللجوء إلى مجلس الشعب الذي يمثل المؤسسة التشريعية للدولة/المدينة عند اليونان آنذاك.

جون راولز: تمحورت محاولته التنظيرية على تحديد الإطار القانوني لما يسميه بالعدالة المنصفة التي تضمن المساواة ولا تلغي التفاوت والاختلاف في نفس الوقت، حيث يكون من حق كل الأفراد الاستفادة من نفس الحقوق والحريات (حرية التعبير-حق الملكية.) دون حرمان ذوي المؤهلات من تحقيق مكاسب أكبر (ثروة -سلطة.). وبعودته إلى "الحالة الطبيعية " التي سبق لفلاسفة العقد الاجتماعي أن رأوا فيها تجسيدا للمساواة، يؤكد "راولز" أنها حالة لابد أن تنطوي على عنصر اللامساواة وفقا لما يسميه "اليانصيب الطبيعية"(La lotterie naturelle) التي تزود البعض بقدرات أكبر من الآخرين (قدرات بدنية أو عقلية.)، الأمر الذي يعني أن الناس لا ينطلقون في الحياة بنفس الحظوظ. ومن ثم يقترح منهجية أخرى - استلهمها من نظرية الألعاب(Théorie des jeux) - تقوم على افتراض "وضعية أصلية " يكون فيها الأفراد المقبلون على التداول حول شروط عيشهم المشترك خلف "حجاب الجهل"، حيث لا يدركون مسبقا ما سيكون عليه مصيرهم، مثلهم في ذلك مثل لاعبين مقبلين على الانخراط في لعبة لا يعلمون شيئا عن مآلها.. ففي هذه الحالة، مثلما أن المقبلين على اللعب سيتفقون على قواعد تضمن لهم المساواة دون أن تحرم المتميزين من ربح أكبر، فإن المقبلين على التعاقد سيتفقون على مبدأ المساواة في الحقوق مع ضمان بلوغ كل فرد ما يستطيعه بمؤهلاته، وهو ما من شأنه أن يضمن عدم "قلب الطاولة" من طرف اللاعبين أو "خرق العقد" من قبل المتعاقدين.

وبهذه الصيغة تصبح التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية مقبولة لكونها ضرورية في ضمان فعالية إنتاجية تفيد الجميع، أو يستفيد منها من هم أكثر تعرضا للحرمان ولا تلغي مبدأ تكافؤ الفرص للجميع، وتكون العدالة المنصفة ذات وظيفة مزدوجة تتمثل في تكريس المساواة من جهة، وتأكيد الاختلاف والتمايز من ناحية ثانية، والغاية من ذلك إرساء الدعائم القانونية لما يسمى في الفكر السياسي المعاصر بالديمقراطية الاجتماعية... وهذا ما يوضحه قول "راولز": "باعتبار أننا نتموقع داخل تقليد الفكر الديمقراطي، فعلينا أن نعتبر المواطنين أشخاصا أحرارا وأندادا ".

وعموما، يلاحظ بأن التصورين السابقين يقومان على تصور قانوني للعدالة والإنصاف رغم ما يبدو بينهما من تباين يجد تفسيره في الاختلاف بين ديمقراطية المدينة اليونانية القائمة على اعتبار الأفراد متساوين متكافئين (الأحرار في اليونان القديمة)، وبين ديمقراطية اجتماعية تحاول التوفيق بين مطلبي المساواة والإختلاف في إطار النظام الليبرالي المعاصر.. غير أن هذه المقاربة القانونية التي لا يمكن إنكار أهميتها في محاولة ترجمة مبدأ العدالة على أرض الواقع بعيدا عن كل نزعة طوباوية، تتقابل مع المواقف المثالية التي تنظر إلى الحق وما يستتبعه من عدالة على أنه قيمة أو فضيلة إنسانية يقتضي السعي نحوها تجاوز الإطار القانوني الضيق الذي تعودت النزعات الوضعية أن تسجن فيه القيم الإنسانية. فبالنسبة ل"كانط"، يشكل الحق والعدالة غايات لا تتحقق إلا في سياق الالتزام بالواجب المطلق الذي يستند إلى الإرادة الطيبة ويستبعد ما هو نفعي أو واقعي؛ ولدى "ليو ستراوس" نجد التمييز بين القانون الذي يستهدف تحقيق العدالة الاجتماعية، وبين الحق الذي يطمح إلى العدالة الإنسانية ويتجاوز بذلك ما هو قانوني وضعي ليمثل فضيلة سامية يظل الإنسان في سعي دائم وراءها. ووفقا لهذا المنظور يظل الحق فكرة أو مثلا أعلى قد يكون غير قابل للتحقق الواقعي، ولكنه يظل مطلبا أو مشروعا يبقي الرهان قائما على بلوغ الأفضل كما تعبر عن ذلك العبارة التالية للأديب الفرنسي "ج– رونار": "إذا كنت متعطشا للعدالة، فإنك ستظل دوما على عطشك..!" "Si tu as soif de justice tu auras toujours soif"..Jules Renard.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(موافق) #days=(20)

يستخدم موقعنا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. تعرف أكثر
Ok, Go it!