يهدف هذا المقال إلى إرشاد المتعلمين ومساعدتهم على فهم المهارات الأساسية التي يجب أن يتقنوها في الكتابة الإنشائية لمادة الفلسفة، مع تنبيههم إلى الأخطاء الشائعة التي ينبغي تجنّبها، وذلك حتى يتمكنوا من تحسين مستواهم وتحقيق نتائج أفضل في الامتحان الوطني. كما نوجّه رسالة إلى الأساتذة الكرام، راجين منهم دعم هذه المبادرة والتفاعل معها بجدية، من خلال مواكبة المتعلمين وتوجيههم بروح من المسؤولية والحرص على مصلحة المادة. فلسنا نواجه أوهامًا ولا نبالغ في الطموح، بل نؤمن أن النجاح ممكن إذا تعاونّا جميعًا، أساتذة وتلاميذ، من أجل خدمة مادة الفلسفة وتطوير درسها.
ما هو الإنشاء الفلسفي؟
الإنشاء الفلسفي هو كتابة منظمة تشترط مراحل ضرورية وأساسية لا يمكن القفز على احدها إطلاقا، وهذه المراحل هي:
المقدمة:
نبدأ كالعادة في كل إنشاء فلسفي بالمقدمة، وهي ليست مجرد خطوة، بل هي أساس البناء المقالي الذي يجب أن يحظى بعناية واهتمامين كبيرين، وهي لا تطلب الحنكة في الأسلوب فقط كما يعتقد بعض التلاميذ، بل تطلب حنكة في التمهيد للفكرة أو الإشكال الذي به نؤسس للتحليل والمناقشة. إنه تمهيد يكشف عن مفارقة أو تناقض يجعل من الطرح الإشكالي ضروريا لكشف هذا التناقض وبسط مفارقاته الممكنة.
ولكون المقدمة هي أول ما يقف عنده المصحح، فإنها تلعب دورا هاما في خلق الانطباع الذي به يتحمس المصحح لقراءة باقي الموضوع بإمعان وروية، أو يُشعره بعزوفٍ عنه، لذلك فالعلاقة بين المتعلم والمُصحح في الفلسفة مبنية على إمكانية السيطرة، أي أن يتحكم المتعلم في المصحح ويجعله يؤسس انطباعا إيجابيا من البداية على كامل موضوعه، أو يؤسس لانطباع سلبي سيؤثر بطريقة مباشرة خصوصا إذا ما كانت بقية الموضوع تسير على خطى التمهيد.
الملاحظ أن هناك أخطاء تمارس في بناء المقدمة من قبل العديد من التلاميذ، من قبيل اعتماد المقدمات الجاهزة، والتي باتت لازمة صالحة لجميع الموضوعات مثلها مثل المقدمات الطللية، من قبيل "يعتبر هذا المفهوم (؟) من بين المفاهيم التي أثارت جدلا واسعا في صفوف الفلاسفة والمفكرين، الشيء الذي يدفعنا إلى طرح الإشكال التالي..." فهكذا مقدمات جاهزة أو متداولة ومستهلكة ينبغي الابتعاد عنها ما أمكن، وذلك عبر تفجير القدرة الإبداعية التي تكمن في داخل كل متعلم، بُغية نسج تمهيد ملائم وخاص وغير متداول تجنبا لتكراره في صفحات التحرير التي سيقف عندها المصحح.
أيضا يجب أن يكون التمهيد مُنسجما مع مضمون الإشكال الذي سيطرح في نهايته، ولا ينبغي التطويل في المقدمة، إذ لا يجوز بأي حال أن تكون أطول من التحليل والمناقشة، كما لا ينبغي طرح أسئلة كثيرة لا علاقة لها بالموضوع، مع العلم أن كل سؤال يشترط بالضرورة جوابا عنه، لذلك ينبغي للمتعلم أن يكون مستوعبا للموضوع المطروح الذي يفض إلى الإشكال الذي سيتم معالجته.
باختصار المقدمة تشترط:
- التمهيد للإشكال الفلسفي؛
- تجنب المقدمات الجاهزة والمتداولة؛
- تحديد الموضوع الذي يعالجه النص أو القولة أو السؤال المفتوح مع توضيح الإشكال الذي يؤطره باختصار؛
- تحديد الإشكال الذي يكشف عن مفارقة آو تناقض، من دون الإكثار في طرح الاسئلة؛
- تحقق الانسجام بين التمهيد والطرح الإشكالي؛
- فهم الموضوع هو المفتاح.
بعد أن بينا خصوصيات الخطوة الأولى وهي التمهيد الذي يفض إلى طرح إشكال، سنقف الآن عند خصوصيات الخطوة الثانية والتي غالبا ما ننعتها بالعرض في سائر المواد التعليمية، لكن في الفلسفة يتميز العرض بكونه يتشكل من عنصرين أساسين لا يمكن أن يقوم دونهما. ولا تستقيم كتابة المُتمدرس إلا بهما، وهذين العنصرين الأساسيين هما التحليل والمناقشة، كما أن السؤال الذي يكون مرافقا في الغالب لكل النصوص في الامتحانات أوفي المراقبة المستمرة يكون: "حلل وناقش؟" وليس العكس، من هنا سنبدأ بالعنصر الأول منها، قصد فهمه واستيعابه ما أمكن.
ما هو التحليل؟
يعتبر التحليل خطوة أساسية في الفلسفة، وقد حظي باهتمام الفلاسفة حتى أن ديكارت قد جعله في القاعدة الثانية من قواعد المنهج الأربعة، ومفاده تقسيم كل المعضلات التي نبحث عنها إلى الأجزاء الممكنة واللازمة لحلها على أحسن وجه، وعند برجسون يقتضي شرح شيء ما بدلالة شيء آخر لا يوجد في الشيء الأول.
إن التحليل هو عملية تبدأ من الإحساس بمشكلة قصد البحث في العناصر التي تحددها وتميزها، وهو يستخدم أسلوب الاستدلال الاستنتاجي الذي يجب على المتعلم اعتماده من أجل فهم هذه العناصر وتِبيان ترابطها فيما بينها، من دون إهمال لأي عنصر.
إذن على المتعلم هنا أن يحقق أهدافا من عملية تحليله، والتي لا تستقيم إلا بأفعال إجرائية من كشف وتمييز وتصنيف وتعريف واستخراج واستنتاج و...
هذا كله لا يستقيم إلا بالقراءة الجيدة والرزينة سواء للنص أو القولة أو السؤال، فعلى المتعلم ألا يكون مستعجلا في تدوين معارفه على ورقة التحرير بمجرد قراءة واحدة سريعة، وذلك لأن أي خطوة كهذه مصيرها غير مضمون.
على المتعلم أن يقرأ الموضوع الذي وقع اختياره عليه، قراءة متكررة ومركزة تستهدف الكشف والتفكيك، حتى يسهل استيعاب المضمون (الأطروحة) الذي يحمله الموضوع، ثم يقوم فيما بعد بعملية تقسيم هذا المضمون إلى عناصر دالة عليه (الأفكار الأساسية) سواء كانت واضحة أو مضمرة غير مصرح بها، وذلك لأن عملية التفكيك هذه، الغرض منها تحليل ما هو غامض ليصبح شيئا واضحا، وهو كما سبق الإشارة إليه، ما يسمى بأسلوب الاستدلال الاستنتاجي الذي على المتعلم اعتماده في عملية تحليله لأي موضوع.
من تم فاستخراج العناصر الناظمة لنص الموضوع يجب أن نجعل منها عناصر مترابطة فيما بينها وتابعة لبعضها البعض من دون قفز على أي عنصر كان. مع ضرورة التمييز بين ما هو أساسي وما هو ثانوي فيها.
إن التحليل هو وقوف عند جملة من المفاهيم التي تُشكِّل موقف أو أطروحة أو فكرة النص أو القولة أو السؤال، مع تبيان القدرة على فهم دلالتها عند صاحب النص، ومحاولة التدقيق فيها من خلال عملية تفكيك عناصر الموضوع والكشف عن علاقاتها المتاحة داخله. مع ضرورة استخراج الآليات المستخدمة (الحجاج) التي يستند إليها صاحب الموضوع لتبرير فكرته أو أطروحته التي هو بصدد تقديمها للقارئ، وتحديد طبيعتها ووظائفها أيضا، لا عرضها دون تسميتها ودون توضيح دورها داخل الموضوع.
التحليل باختصار هو:
- إجابة على شق معين من الإشكال المطروح في المقدمة،
- تحديد المفاهيم الواردة في الموضوع وتبيان دلالتها فيه وعلاقتها فيما بينها،
- وقوف عند مبدأ منظم للموضوع (الفكرة العامة أو الأطروحة) مع تفكيكها إلى عناصر مترابطة مع بعضها البعض (الأفكار الأساسية).
- استخراج الحجج أو الأساليب الواردة في الموضوع قيد التحليل مع تحديد طبيعتها ووظائفها.
- تحقيق تماسك منطقي بين الطرح الإشكالي الوارد في المقدمة والعناصر المكونة لمضمون التحليل،
- لا يستقيم كل هذا إلا بالقدرة على القراءة والفهم الجيدين لنص الموضوع.
ما ينبغي تجنبه في التحليل:
- ينبغي أن يكون مباشرة بعد المقدمة،
- القراءة السريعة وغير يقظة،
- عدم الانتباه للمفاهيم الناظمة للموضوع دون الوقوف عندها جميعها ولا فهم علاقتها مع بعضها البعض،
- إعادة صياغة النص بأسلوب آخر دون تفكيكه وتبيان مراميه،
- التركيز على ما هو ثانوي وإغفال ما هو أساسي في نص الموضوع،
- أن يكون التحليل مجرد أسطر، أو حجمه أصغر من المقدمة،
- الركاكة في الأسلوب، والمكوث في حلقة مفرغة،
- اقتباس أسطر من نص الموضوع ووضعها كما هي على أساس أنها حجج وأدلة واردة نفي النص.
الخطوة الثانية في العرض هي المناقشة.
تأتي المناقشة مباشرة بعد عملية التحليل، ولا يتعلق الأمر هنا فقط بخطوة تتميز عن باقي الخطوات المهيكلة للإنشاء الفلسفي، بل هذه الخطوة تزداد ضرورة وعناية لكونها هي التي تُقحم المتعلم إلى التفلسف، وتُترجم قُدراته في الفهم والاستيعاب، وتمنح لكتابته قيمة ومعنى. وهي ليست كما يَعتقد البعض مرحلة لإيراد المواقف وعرض التصورات، كما هو معروف عند الغالبية من المتعلمين، بل المناقشة تقتضي في البدء فهما واضحا واستيعابا جيدا لمضمون النص، فإن انحرف التحليل عن الفهم الجيد للموضوع، فقدت المناقشة قيمتها ووظيفتها. وبالتالي فالتحليل الجيد ما هو إلا تمهيد لمناقشة جيدة. لأنها تجعل المتعلم يبرر فهمه لأفكار الموضوع من خلال ربط الصلة بينها وبين آراء أخرى مساندة ومُدعمة، شريطة ألا تأتي على وجه الاستطراد. ولا ينبغي أن تكون سردا للمواقف حتى لا تتحول المناقشة إلى عرض لها لا غير. بل لابد من جعل المناقشة عبارة عن حوار مفعم بالحركة، أي كتابة قائمة على مساندة وعلى اعتراض في نسيج يشير إلى التشابه أو التقارب أو التعارض والتباعد مع فكرة الموضوع الذي تم تحليله. وتبيان الجوانب المشتركة والمختلفة مع ما يوافق هذه الفكرة وما يعارضها في خطاب متسق نتيجته الأخيرة هي الإجابة عن طرفي الإشكال المطروح في المقدمة.
المناقشة إذن هي مساءلة فحوى الموضوع المعالج، عبر المصادقة على مضمونه من خلال مواقف أخرى تم الوقوف عندها أثناء بناء الدرس الفلسفي مع المدرس، تم الكشف عن ما يخالف هذا المضمون ويعارضه، مع إمكان الانفتاح على المعارف والخبرات الشخصية للمتعلم في علاقتها بالموضوع المعالج ودون الخروج عن إطاره، والهدف من كل هذا فحص المسألة (قضية الموضوع المعالج) من خلال الكشف عن كل التصورات المتعارضة ووجهات النظر التي يمكن أن تصل إلى حد الخلاف والخصومة، ودور المتعلم ها هنا في عرضه لهذه التصورات المتباينة، مُقابلتها بعضها ببعض، وهذا من أجل تحقق البعد النقدي له وقدرته العثور على الإجابات الممكنة للإشكال المطروح في المقدمة.
فعلى المتعلم أن يعلم أن القضايا الفلسفية، لا يمكن قراءتها بنفس العين، فهناك إمكانيات عدة تمنحها معالجة أي قضية فلسفية، لكونها حقيقة تحتاج للتأويل والنقد.
ما الذي ينبغي في المناقشة؟
- فهم الموضوع وتحليله جيدا، على أساس أن لحظة التحليل ما هي إلا تمهيد للمناقشة، فإن كان الفهم واضحا والتحليل جيدا، من السهل أن تكون المناقشة بدورها منسجمة مع معطيات التحليل.
- المناقشة في شق منها جواب على شق من الإشكال المطروح في المقدمة،
- المناقشة هي عرض للآراء والمواقف التي هي مع أو ضد القضية المعالجة، في نسيج يشير إلى التشابه أو التقارب أو التعارض والتباعد. وتبيان الجوانب المشتركة والمختلفة مع ما يوافق هذه الفكرة وما يعارضها في خطاب متسق ومتناسق.
- المناقشة هي فحص للقضية المعالجة وتحريك لذهن التلميذ من خلال استعانته ببنية حجاجية تزج به في التفلسف عبر المقابلة والمقارنة والمماثلة والدحض... في كتابته،
ما الذي ينبغي تجنبه في المناقشة؟
- تقديم المناقشة على التحليل،
- عدم اعتماد التدرج في عرض الآراء المؤيدة ثم المعارضة، او الخلط بينها، لأن ذلك يؤثر مباشرة على نسقية البناء الإنشائي،
- لا ينبغي أن تكون سردا للمواقف حتى لا تتحول المناقشة إلى عرض لها لا.
الخاتمة:
تعد الخاتمة في الإنشاء الفلسفي لحظة حاسمة تُتوَّج بها مجهودات التلميذ الفكرية، إذ تمثل المحطة الأخيرة التي ينبغي أن تُكتب بوعي وانسجام مع ما سبق من تحليل ومناقشة. وعلى الرغم من أنها تأتي في نهاية الموضوع، فإنها لا تقل أهمية عن المقدمة، بل إنها تترك الانطباع النهائي الذي يُكمّل الصورة العامة للمصحح حول قدرات التلميذ على بناء تفكير متكامل. فالخاتمة ليست مجرد إجراء شكلي أو إعادة سرد حرفي لما تم تناوله، بل هي لحظة لتركيب النتائج واستثمارها في أفق فكري يتجاوز حدود الموضوع المباشر.
من الضروري في هذه المرحلة أن يُعيد التلميذ تجميع الخلاصات الأساسية التي تم التوصل إليها خلال التحليل والمناقشة، ولكن بأسلوب موجز ومتماسك، دون تكرار حرفي أو إسهاب لا داعي له. يجب أن ترتبط الخاتمة بالإشكال الذي طُرح في المقدمة، بحيث تظهر كإجابة مركبة وواعية عنه، بما يعكس قدرة التلميذ على تتبُّع الإشكال منذ بدايته إلى غايته. ولا مانع، إن توفّرت الإمكانية الفكرية، من فتح أفق جديد للتفكير، كأن يُختتم الموضوع بطرح سؤال فلسفي بديل أو تأمل يمتد بالموضوع نحو مجالات أخرى. فهذا الأسلوب يعطي للخاتمة عمقا ويمنح المصحح انطباعا بأن التلميذ لا يشتغل ضمن حدود معرفية ضيقة، بل يملك وعيا بالإشكال كقضية مفتوحة على إمكانيات متعددة.
في المقابل، هناك مجموعة من الأخطاء التي ينبغي الحرص على تجنُّبها عند كتابة الخاتمة، لأنها قد تضعف الموضوع بأكمله. لعل أبرز هذه الأخطاء هو الوقوع في التكرار الحرفي لما سبق، أو إدخال أفكار جديدة لم يتم تناولها من قبل، مما يُفقد الخاتمة انسجامها مع باقي الموضوع. كما أن الابتعاد عن الإشكال الأصلي، أو إنهاء الموضوع بجمل فضفاضة وعمومية من قبيل "ويبقى الجواب على هذا السؤال رهينا بالزمن"، يُعد من مظاهر الضعف التي لا تعكس قدرة حقيقية على التفكير الفلسفي المتماسك. فكل فكرة تُطرح في الخاتمة يجب أن تكون متجذّرة في صلب الموضوع، وكل كلمة يجب أن تُكتب بوعي وتروٍّ.
إن النجاح في كتابة خاتمة فلسفية فعالة يتطلب الوعي بوظيفتها، والقدرة على توجيه المتلقي نحو خلاصة فكرية مركّبة تُظهر النضج في التعامل مع الإشكال الفلسفي. ومتى ما تحقق هذا الوعي، فإن الخاتمة تصبح لحظة إشراق فكري تُتوج بها كتابة متكاملة من بدايتها إلى نهايتها، وتمنح المصحح يقينا بأن صاحب هذا الإنشاء لا يكتفي بتجميع المعلومات، بل يُمارس فعل التفلسف بروح نقدية وواعية.