مفهوم الحقيقة: أحمد جابر

سعيد إيماني
بواسطة -
0

مفهــوم الحقيقــــة بقلم الأستاذ أحمد جابر

تقـديم:

ينطوي الحقل الدلالي لمفهوم الحقيقة على معان متعددة تشمل مستويات عدة. فالحقيقة تستخدم بمعنى الشيء الواقعي الموجود وجودا فعليا مقابل الخيال أوالوهم، وبمعنى الجوهر أو الماهية الثابتة مقابل الأعراض المتغيرة الزائلة (الدلالة الأنطولوجية). كما تعني الحقيقة الحكم الصائب أو الصادق مقابل الخطأ أو الكذب (الدلالة المنطقية أو المعرفية)، إضافة إلى ما تعنيه الحقيقة في مجال اللغة بوصفها المعنى الثابت للفظ مقابل المجاز الذي يمثل المعنى المتغير أو المتحول... وهذا التعدد الدلالي جعل مفهوم الحقيقة يتسم بطابع إشكالي من حيث تكامله مع مفاهيم معينة (الواقع- الحكم- الماهية- الثبات...)، أو تعارضه مع أخرى (الخطأ- الوهم والكذب- المتغير...)، الشيء الذي يفسر كون "الحقيقة" قد شكلت مجالا للتناول الفلسفي والعلمي (أو الإبستيمولوجي) بغاية تحديد طبيعتها ومصادرها ومقاييسها وقيمتها...
  • فما هي الطرق التي تضمن بلوغ الحقيقة؟
  • وما هي المعايير التي تتحدد وفقها الحقيقة؟
  • وما الذي يجعل من الحقيقة قيمة بالنسبة للإنسان؟

مفهوم الحقيقة: أحمد جابر
مفهوم الحقيقة: أحمد جابر

المحور الأول: الـــرأي والحقيـقـــة

إذا كان من الطبيعي أن تتعدد الوسائل المعتمدة في تحصيل الحقيقة. فما هو الطريق الأنجع لبلوغها؟ التأمل العقلي أم الحدس الوجداني؟ وما قيمة الرأي في علاقته مع الحقيقة عموما، ومع الحقيقة العلمية خصوصا؟

أفلاطــــون: الحقيقة نتاج للتأمل العقلي

انطلاقا من تمييزه، في نظرية المثل، بين عالم مادي محسوس يتشكل من الأشياء الملموسة التي يعتريها التغير والزوال والنقص، وتمثل مجرد ظلال وأشباح أو نسخ مشوهة ناقصة ل"عالم المثل"، كعالم معقول ثابت وكامل تعتبر موجوداته بمثابة نماذج عليا (المثل) لكل الأشياء المادية؛ يؤكد "أفلاطون" على أن المعرفة الحقة لا يمكن أن تضمنها الحواس التي تقف عند حدود الظاهري المحسوس والمتغير، بل تتأتى من خلال إدراك حقائق عالم المثل، أي المعقولات المجردة الثابتة والمطلقة، وهو ما يتم عبر التأمل العقلي أو "الجدل الصاعد" الذي ينتقل من الملموس إلى المجرد، من المحسوس إلى المعقول، من الأدنى إلى الأعلى، وبالتالي من أوهام المعرفة الحسية إلى "الماهيات" أو "المثل" يقابله "الجدل النازل" الذي يشير إلى انحدار النفس من عالم المثل أو الماهيات المعقولة إلى عالم المحسوسات... فالحقيقة ليست قائمة في العالم المادي حيث تسود الأوهام والمعارف الظنية المستمدة من الحس المشترك، بل تظل عقلية مجردة يتطلب إدراكها تحرر النفس من قيود البدن للإرتقاء بالذات إلى مستوى التأمل العقلي الذي ينصب على الماهيات المعقولة التي تشكل جوهر الحقيقة.

باسكال: الحقيقة نتاج لحدس وجداني

"إن للقلب حقائقه التي لا يدركها العقل"... يعبر هذا القول ل "باسكال" عن حضور نزعة دينية أو صوفية لدى عالم اشتهر بتعدد مواهبه العلمية والأدبية دون أن يهمل الجانب الوجداني كمصدر للحقيقة. فهو يؤكد على أن القلب يمثل وسيلة لبلوغ الحقيقة منتقدا بذلك الموقف العقلاني الذي ينظر إلى العقل كمصدر وحيد للمعرفة، ورافضا النزعة الشكية التي تنكر وجود الحقيقة أصلا. فالقلب له حقائقه المتمثلة في مبادئ أولية منبعها الشعور، تدرك بشكل حدسي مباشر ولا تحتاج بالنتيجة إلى الإستدلال؛ ومن ثم فهي تشكل الأساس الذي يعتمد عليه العقل في بناء استدلالاته بهدف استنباط حقائق أخرى... فتصورنا للمكان والزمان والحركة والأعداد يقوم على حدس مباشر مصدره القلب، وهي حقائق لا تقبل الشك وتشكل بالنتيجة الأساس الذي ينبغي على العقل أن يستند إليه لاستنتاج حقائق أخرى. (مثال ذلك أننا ندرك بصورة حدسية مباشرة بأن الأعداد لانهائية. وبناء على هذه الحقيقة الأولية يستطيع العقل البرهنة على عدم وجود عددين مربعين أحدهما ضعف الآخر).

باشلار: الحقيقة العلمية قطيعة مع الرأي

يتقابل الرأي، بوصفه معرفة يعوزهـا اليقيـن لكونها مسـتمدة من الحـس أو الفهـم المشترك، مع الحقيقة التي تعتبر يقيـنا مبـرهنا عليه. فـالرأي هـو المعرفــة المتداولــة التي تمتزج بالأغـراض اليومية ولا تتأسس على تفكير منهجي فتظـل بذلك مرادفـة للوهـم والظن، وهو ما يجعلها نقيضا للحقيقة العلمية كمعرفة يتم إنتاجها وفق شروط وقواعد منهجية تضفي عليها صبغة اليقين...

ويتجسد هذا التقابل عند "باشلار" الذي يرى أن الحقيقة العلمية تتعارض مع الرأي الذي ينطوي دائما على الخطأ بسبب ارتباطه بالمنافع العملية اليومية للإنسان، بخلاف المعرفة العلمية التي لا توجهها دوافع أو أغراض نفعية. وهذا ما يجعل من الرأي "عائقا إبستيمولوجيا" يحول دون بلوغ معرفة علمية دقيقة حول الواقع، لأن ما يمدنا به عبارة عن معرفة عامية غايتها تلبية حاجات عملية كما يشير إلى ذلك "باشلار" في قوله: "إن الرأي مخطئ. إنه يفكر تفكيرا سيئا، بل إنه لا يفكر، وإنما يترجم حاجات إلى معارف"، فالرأي يظل معرفة تلقائية تفتقر إلى التبرير العلمي، في حين أن الحقيقة العلمية مطالبة بأن تتحرر من عيوب المعرفة العفوية المعطاة اعتمادا على منهج صارم يسمح ببناء معرفة تمثل "قطيعة إبستيمولوجية" مع الرأي.

كخلاصة، يتبين أن طرق تحصيل الحقيقة تتنوع بقدر تنوع مجالاتها واختلاف المنظورات المعتمدة؛ حيث يحتكر العقل الحقيقة من زاوية نظر عقلانية مثالية (أفلاطون)، ويصبح القلب موطنا لها من منظور تمتزج فيه الروح العلمية بالنزعة الدينية (باسكال)، كما أن الحقيقة العلمية يتم بناؤها على أسس منهجية تجعلها نقيضا للرأي من منظور إبستيمولوجي (باشلار).

المحور الثاني: معايــير الحقــيقـــة

علاوة على التباين في تصور الوسائل المؤدية إلى الحقيقة، يطرح هذا المفهوم مسألة المعايير المعتمدة في قياس مصداقية ما يتم التوصل إليه من معارف. فكيف تتحدد معايير الحقيقة في ظل تعدد الخطابات الفلسفية؟

ديكارت: معيار الحدس والاستنباط

اتسم الإتجاه العقلاني، بمختلف تجلياته أو تمظهراته عبر تاريخ الفلسفة، بإضفاء طابع عقلي خالص على الحقيقة من خلال التأكيد على أن ما يدركه العقل يكون يقينيا مقابل ما تمدنا به الحواس من نتائج وهمية خادعة. ويعبر"ديكارت" عن هذا الموقف حين يؤكد على أن ما يضمن بلوغ الحقيقة هو الإعتماد على منهج صارم يقوم على "الحدس" و"الإستنباط". فالحدس إدراك عقلي مباشر للحقائق البديهية التي يتقبلها العقل دون حاجة إلى الإستدلال (حقيقة الأنا أو"الكوجيطو"- حقيقة المثلث والدائرة)؛ والإستنباط إدراك عقلي غير مباشر يتم بموجبه استخلاص حقائق جديدة، بطريقة منطقية، استنادا إلى الحقائق البديهية (الحدسية). وبناء على ذلك، يتحدد معيار الحقيقة في "البداهة" المرتبطة بالحدس من جهة، وفي "التماسك المنطقي" المرتبط بالإستنباط من جهة ثانية، إذ أن الأفكار التي تنسجم مع قواعد الإستنباط المنطقي لا تقل يقينا عن الحقائق البديهية الحدسية.

اسبينوزا: الحقيقـة معيار ذاتها

من نفس المنظور العقلاني، يعتبر "باروخ اسبينوزا" أن ما يضفي اليقين على الحقيقة هو بداهتها التي تفرض نفسها على العقل. فالحقيقة تحمل معيار صدقها في ذاتها وخطأ ما يخالفها، تماما مثلما يحمل النور في ذاته قوة الإنكشاف التي تزيح الظلام، وكل ما يتم إدراكه من طرف العقل بطريقة حدسية مباشرة يصبح غير قابل للشك. ومعنى ذلك أن العقل ما دام يقبل الحقيقة عندما تتوفر على البداهة والوضوح، فإن معيار اليقين يكون قائما في الحقيقة ذاتها أو متضمنا فيها. والضامن لهذا اليقين هو أن العقل البشري جزء من العقل الإلهي مما يجنبه الوقوع في الخطأ كما يؤكد القول التالي لباسكال: "إن نفسنا من حيث هي تدرك الأشياء إدراكا حقيقيا هي جزء من الذهن الإلهي اللامتناهي، وإنه من الضروري أن تكون الأفكار الواضحة والمتميزة للنفس أفكارا حقيقية، فإن ذلك ضروري وملازم لأفكار الله".

هكذا تكون مطابقة الفكر لذاته معيارا للحقيقة عند العقلانيين، حيث يتحدد اليقين في البداهة العقلية وما يتأسس عليها من استنتاجات منطقية؛ وهو ما رفضه الإتجاه التجريبي الذي يؤكد على معيار التطابق بين الفكر والواقع الموضوعي الملموس الذي يمثل منبعا ومرجعا لكل حقيقة، لأن الإنسجام مع ما تؤكده التجربة هو ما يضمن للحقيقة يقينها.

هايدجر: الحقيقة كانكشاف حر

في مقابل ذلك، نجد مواقف فلسفية معاصرة رافضة لمعيار المطابقة كما تصورته النزعات العقلانية والتجريبية في سياق صراعها النظري حول الحقيقة، حيث يؤكد هايدجر على معيار"الانكشاف" الذي يقتضي ترك الحقيقة تعبر عن نفسها بحرية ودون إكراه قبلي سواء تمثل في أطر العقل أو في قواعد التجريب والإختبار. فانفتاح الذات على الواقع واستعدادها لاستقباله كما ينكشف أمامها هو الطريق الأمثل نحو الحقيقة، لأن "الحقيقة حرية" حسب تعبير هايدجر... ومن ثم فالذات العارفة ينبغي لها أن تتسم بالإنفتاح لكي تستقبل حقائق الواقع دون إخضاعها لمقاييس مسبقة، وبدل الكشف عن الواقع يصبح انكشافه أمام الذات هو الأساس.
كخلاصة، يلاحظ أن معايير الحقيقة قد تتمثل في انسجام العقل مع ذاته من زاوية نظر عقلانية، أو في الإتفاق مع الواقع حسب التجريبيين، أو في معيار الإنكشاف الذي يؤكد عليه المنظور الفينومينولوجي المعاصر.

المحور الثالث: الحقيقة بوصفها قيمة

لقد أضفت الفلسفة اليونانية قيمة نظرية على الحقيقة من خلال اعتبارها "غاية في ذاتها" يسعى الإنسان من وراء امتلاكها إلى المعرفة أو القضاء على الجهل وليس لتلبية أغراض عملية. فالمبدأ الذي يستند إليه هذا الموقف هو "الحقيقة من أجل الحقيقة" كتعبير عن أهمية ما هو نظري خالص مقابل ما هو عملي نفعي.

وفي سياق الفلسفة الحديثة، يبرز موقف كانط الذي يقوم على اعتبار الحقيقة واجبا أخلاقيا مطلقا يكتسي بعدا إنسانيا مجردا من المنفعة. فهو يعتبر أن الحقيقة "واجب قطعي على الإنسان تجاه كل إنسان مهما تكن جسامة الضرر الذي يمكن أن يترتب عنه بالنسبة إليه". فالحقيقة واجب ينبغي التمسك به في مطلق الأحوال وتجاه كل الناس دون مراعاة للعواقب، لأن الغاية التي ينبغي السعي وراءها دوما هي خدمة الإنسانية جمعاء من خلال اعتبار الإنسان غاية لا وسيلة. ومن ثم يصبح الكذب، بوصفه نقيضا مطلقا للحقيقة، رذيلة لأنه ينحرف بصاحبه عن هذا المسلك كما يتضح من قول كانط: "الكذب مسيء للغير دائما حتى وإن لم يسيء إلى إنسان بعينه، فهو يسيء إلى الإنسانية جمعاء".

تضمنت الفلسفة المعاصرة عدة تصورات حول قيمة الحقيقة من بينها ما يذهب إليه "الاتجاه البراجماتي" الذي يجعل من الحقيقة وسيلة لتحقيق المنفعة العملية رافضا النظر إليها كغاية كما فعلت المواقف التقليدية. فالفكرة التي نستفيد منها، أو تكشف عن صلاحيتها العملية، تمثل الحقيقة مقابل الفكرة الخاطئة التي لا نستطيع استثمارها عمليا. وهذا ما يعبر عنه وليام جيمس، رائد هذه النزعة، في قوله: "يقوم الصادق بكل بساطة في كل ما هو مفيد لفكرنا، والصائب فيما هو مفيد لسلوكنا".

هايدجر: الحقيقة نقيض للتيه

من منظور الإتجاه الفينومينولجي، يرى هايدجر أن الإنسان عندما ينصهر في الجماعة يفقد كينونته الفردية ويتيه عن حقيقة ذاته، حيث ينصرف إلى الوجود الزائف الذي هو أكثر رواجا وينسى الوجود الحقيقي، وبذلك يعتبر هايدجر أن الحقيقة تتقابل مع التيه كوجود زائف يختفي فيه الكائن الفرد، ويمثل مجالا لكل ما هو مضاد للحقيقة. فقيمة الحقيقة تتجلى، إذن، في مدى قدرتها على تجاوز حالة التيه التي تطبع الوجود الإنساني.

إريك فايل: الحقـيقـة نـفي للعنـــف

يرفض إريك فايل التصور التقليدي للحقيقة كنقيض للخطأ، حيث يؤكد على أن الحقيقة لا تتقابل مع الخطأ ليكون مقياسها تطابق الفكر مع الواقع، بل إنها تتعارض مع العنف الذي يتطلب القضاء عليه خلق التطابق أو الإنسجام بين الإنسان والفكر، وذلك من خلال اعتماد خطاب عقلاني متماسك يسمح بإحلال المعنى محل العنف... فما يعرفه العالم من عنف وشقاء يفرض الحاجة إلى مثل هذا الخطاب الذي يستند إلى العقل كمصدر لقيم التسامح أو اللاعنف. ومن ثم ينبغي، للحد من العنف، العمل على التشبث بخطاب العقل الذي يقوم على التماسك والإنسجام ويلغي العنف لصالح المعنى.

هكــذا، يتبين أن الفكر الفلسفي قد أضفى على الحقيقة قيمة فكرية خالصة (اليونان)، وقيمة أخلاقية مطلقة كانط، وذلك في سياق هيمنة نظرة مثالية تقليدية. كما تتخذ الحقيقة، في الفكر المعاصر، قيمة عملية نفعية (البراجماتية)، أو قيمة إنسانية تجعلها في مواجهة التيه والعنف في إطار مواقف تحاول التعبير عن الواقع الإنساني الراهن هايدجر/ فايل.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(موافق) #days=(20)

يستخدم موقعنا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. تعرف أكثر
Ok, Go it!