ما المقال الفلسفي؟
بقلم الأستاذ: إدريس أوهلال
تقديم:
قد يبدو من عنوان الدرس أننا بصدد إعادة الدرس الأول؛ كان عنوان الدرس الأول هو: ما المقال؟ أما في هذا الدرس فالسؤال هو: ما المقال الفلسفي؟ فالفرق واضح إذن. بين هذا الدرس والدرس الأول علاقة عموم وخصوص؛ عمومية الدرس الأول وخصوصية هذا الدرس. فبعد الدروس التمهيدية العامة التي مرت بنا، وابتداء من هذا الدرس سنخصص إن شاء الله كلامنا وسنحصره على المقال الفلسفي. وسنبدأ بالبداية فنتساءل: ما المقال الفلسفي؟
في أهمية هذا السؤال:
قد يبدو هذا السؤال مبتذلا أو مستهلكا، وهو بالفعل كذلك إلى حد ما؛ لا بسبب بداهته أو وضوحه أو بساطته أو كثرة تداوله، بل بسبب الأخطاء والأوهام المعرفية والمنهجية التي تحيط به من فرط "النصائح المنهجية" و"التجارب" التي بلغت من الكثرة حد التضخم دون أن تمنح، في أغلب الأحوال، الوضوح المطلوب. كثرة بلغت به درجة الابتذال والغموض المتبادل (المسكوت عنه واللامفكر فيه) بين التلاميذ والأساتذة والمفتشين؛ غموض كتابات التلاميذ التي تسمى "مقالات فلسفية" زعما، وغموض توجيهات السادة الأساتذة المنهجية ومعايير تصحيحهم، وأخيرا غموض توجيهات السادة المفتشين في دليل التصحيح. وأنا هنا أتحدث عن وضع قائم لا أحد يمكنه تجاهله، وهناك طبعا تجارب متميزة ورائدة لكنها الاستثناء، والاستثناء لا حكم له. وأستسمح الزملاء عن هذه الصراحة. أعتقد أننا بحاجة إليها وإلى أن نقسو على أنفسنا ونصارح أنفسنا بأنفسنا. هذه هي الحقيقة المرة. ولعل أكبر خطأ نرتكبه نحن الأساتذة هو أننا لا ننقل للفضاء العمومي تصوراتنا وتجاربنا الشخصية، ونبقيها حبيسة فصولنا مثلما يبقي التلميذ الخائف من "الخطأ" تمثلاته حبيسة عقله ولا يطلب الكلمة داخل الفصل ليعلنها. لا نمل من التأكيد على أن الخوف من الخطأ هو من أكبر الأخطاء، ومع ذلك نمارس لعبة "المسكوت عنه" حتى لا نفكر فيه. وأنا شخصيا إذ أنشر في هذه السلسلة تصوري للمسألة وتجربتي الشخصية في الموضوع أعي جيدا بأن احتمال الخطأ فيما أكتب وارد. وأنا أنشر لأستفيد من ملاحظات الزملاء وتجاربهم بقدر ما أنشر لأفيد إن كان فيما أكتب صوابا. وأتذكر هنا قولا للزميل ديوجين يعكس في دلالته هذا الحس الراقي بالمسؤولية المشتركة، وهذا الوعي العميق بأن الحقيقة لا أحد يملكها وأننا ننالها ببذل الجهد الجماعي. قال ما معناه: "نحن على الأقل ملكنا الشجاعة لنشر ما نقوم به في فصولنا".
نرجع لسؤالنا لنتابع الحديث عن أهميته. إن القضايا التي نمنحها من ذاتنا طابع البداهة ولا تحمل هي بذاتها هذه الصفة هي بالضبط مصدر أكثر أخطائنا وأكبرها. إنها العادة والمألوف وما نعتقده واضحا أو دقيقا أو صحيحا أو بديهيا وهو ليس كذلك بذاته ومن ذاته. إن العادة تقتل فينا روح التساؤل؛ أي في النهاية روح التفلسف، فلا نفكر في تسلق شعر فروة الأرنب لنكتشف عمق الغيبوبة السعيدة التي نحياها في دفئ فرو الأرنب. وما يؤكد تقديري هذا للوضع هو هذه الشكوى مما يكتبه التلاميذ التي نسمعها ونقرِؤها لدى الأساتذة؛ فبدل أن نتساءل نحن الأساتذة عن مدى دقة توجيهاتنا المنهجية ووضوحها نشكو كتابات التلاميذ وكأن التلميذ يكتب بتوجيه من ذاته.
صحيح أن ضعف الأداة اللغوية لدى التلاميذ يؤثر سلبا على كتاباتهم، لكني أزعم بأن ضعف الأداة المنهجية يؤثر بدرجة أكبر، وأزعم أيضا، وأنا هنا أتحدث عن تجربة شخصية أقدر بأنها ناجحة، بأن الرهان على تطوير الأداة المنهجية لدى التلميذ يمكن أن يجعلنا نكسب رهان جودة كتابات التلاميذ الفلسفية ويقلل من حدة ضعف الأداة اللغوية.
في تقويم الموجود:
أعتقد أنه من الواضح جدا أننا لا نتحدث عن ما يكتبه الفلاسفة من مقالات، بل عن كتابات التلاميذ ونماذج السادة الأساتذة وتوجيهاتهم في الموضوع. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا وبإلحاح هو: هل ما يكتبه التلاميذ في مادة الفلسفة يستحق اسم مقال فلسفي على الأقل بمبرر توفر حد أدنى من مواصفات الكتابة المقالية الفلسفية؟ وهل ما يقدمه الأساتذة تحت اسم "منهجية المقال الفلسفي" ينتهي بالتلميذ بالفعل إلى "المقال الفلسفي" متى احترم التلميذ بدقة هذه التوجيهات؟
لنسجل أولا، قبل الإجابة عن هذين السؤالين، أن الكثير من الفصول الدراسية تشكو غياب التوجيهات المنهجية وحصص التمارين الفلسفية الجزئية والتركيبية، فدرس الفلسفة لا يتجاوز حدود "المقرر"؛ أي دروسا مجردة في قضايا أكثر تجريدا ! ولنا أن نتصور نتيجة هذه "المنهجية النظرية". ولا أعتقد أن الوضعيات الديداكتيكية والأمثلة التي يجتهد الأستاذ في استخدامها تكفي لإخراج درس الفلسفة من مأزقه في غياب حصص قارة ومنتظمة لدروس واضحة ودقيقة في المنهجية والتمارين. ولا أعتقد أيضا أن حصة أو حصتين في نهاية السنة للتوجيه المنهجي تكفي لإعداد التلميذ لمغامرة المقال الفلسفي وتحليل النص والقول ومناقشتهما في الموحد الوطني.
ولنسجل ثانيا أن الإصلاح الأخير كرس أزمة الدرس الفلسفي. صحيح أن هذا الإصلاح حافظ على مجموعة من مكتسبات الدرس الفلسفي وخاصة التدريس بالنصوص، والمقاربة الموضوعاتية، لكنه يفتقد للكثير من مقومات الدرس الفلسفي، ومنها:
ـ تصور واضح ودقيق ومفصل للكفايات والمهارات الخاصة المستهدفة، وخاصة ما يتعلق بالبناء الإشكالي والبناء المفهومي والبناء الحجاجي والكتابة الفلسفية والقراءة الفلسفية والحوار الفلسفي؛
ـ تصور واضح وعملي للتمارين الفلسفية خاصة على مستوى توزيع الحصص الأسبوعية للمادة، وفي دفتر التحملات الخاص بتأليف الكتاب المدرسي. ولو أجبر واضعو دفتر التحملات المؤلفين بمثل هذا التصور لرأينا نتائجه الايجابية في الكتب المدرسية؛
ـ درس المؤلف الفلسفي؛
ـ الموضوعية والنزاهة والشفافية ومعايير الجودة في عملية تأليف الكتب المدرسية. حتى أن الملاحظ الفطن سيكتشف بأن تأليف كتاب مدرسي في مادة الفلسفة يمكن أن يتم "في خمسة أيام وبدون معلم" بحيث يكون:
اليوم الأول: لتجميع نصوص فلسفية في محاور محددة سلفا؛
اليوم الثاني: للتفكير في وضع بضعة أسئلة عامة أسفل النص الأول؛
اليوم الثالث: لنسخ هذه الأسئلة أسفل باقي النصوص؛
اليوم الرابع: لطبع الكل؛
اليوم الخامس: لشراء ظرف كبير من أقرب مكتبة!
لنرجع بعد هذه التوضيحات للسؤالين اللذين نستهدف من خلالهما تقويم الموجود من كتابات التلاميذ وتوجيهات الزملاء السادة الأساتذة.
يستحيل الإجابة عن هذين السؤالين بصيغة التعميم، بل من الخطأ الاجابة عنهما بإصدار حكم عام يتجاهل تنوع النماذج والتجارب الموجودة وتفاوتها في الوضوح والدقة. ومع ذلك لا يمكن أن نتجاهل السمة الغالبة على ما يكتبه التلاميذ والمتمثلة في عدم توفره على الحد الأدنى من مواصفات الكتابة المقالية الفلسفية؛ وليست الشكوى مما يكتبه التلاميذ وحدها الدالة على هذا الوضع، بل أيضا "الاحتفاء الكبير" بالنماذج المتميزة من كتابات التلاميذ.
وبعيدا عن الأحكام العامة وأحكام القيمة يمكن تسجيل الملاحظات التالية على كتابات التلاميذ وأعتقد أن أغلبها هو نتيجة طبيعية لغياب التوجيه المنهجي أو ضعفه:
- ضعف شديد في الأداة اللغوية؛
- ضعف شديد في الأداة المنهجية؛
- ميل واضح نحو مقال الحكي (الاستظهار الحرفي للمعلومات) وبالتالي غياب التفكير الذاتي والنقدي؛
- غياب القدرة على ممارسة التفكير الفلسفي في حده الأدنى، ويتجلى هذا في غياب القدرة على البناء الإشكالي والبناء المفهومي والبناء الحجاجي.
تعريف المقال الفلسفي:
نصل الآن، بعد كل هذه المقدمات، إلى بيت القصيد: ما المقال الفلسفي؟
لنؤكد أولا على وجود نوع من الكتابة المقالية يمارسها التلاميذ تقبل أن تسمى بأية تسمية إلا اسم "مقال" فأحرى "مقال فلسفي"، أسميها شخصيا "مقال السباحة الحرة"! ؛ ويتعلق الأمر تحديدا بالكتابة التي يتحدث فيها التلميذ عن كل شيء ولا شيء، والكتابة التي لا منطق لها ولا وجهة.
بعيدا عن هذا النوع من الكتابة نتساءل هل المقال الفلسفي هو تمرين:
ـ في استظهار آراء الفلاسفة حول إشكال محدد؟
ـ أم في عرض آراء الفلاسفة حول إشكال محدد ونقدها؟
ـ أم في التفكير الذاتي حول إشكال محدد؟
لنؤكد منذ البداية بوضوح، وبقوة، وفي جملة واحدة، جامعة مانعة، وقبل التفاصيل التي قد تشوش على الجوهر، بأن المقال الفلسفي يفترض من التلميذ:
اقتراح حل شخصي لمشكل فلسفي عن طريق التفكير الذاتي المدعم بالحوار النقدي مع نظريات الفلاسفة.
ومعنى هذا أن المقال الفلسفي هو في نفس الوقت:
ـ تمرين في التفكير الذاتي؛
ـ تمرين في التفكير النقدي؛
ـ تمرين في استرجاع آراء الفلاسفة وفي التوظيف الجيد لها.
وعلى هذا الأساس يمكن للتقويم أن يطرح ثلاثة أسئلة:
ـ هل يملك التلميذ عقلا مستقلا؟
ـ هل يملك التلميذ عقلا ناقدا؟
ـ هل يملك التلميذ فكرا فلسفيا؟
وعلى افتراض أن التلميذ قد يعجز عن القيام بكل هذا في نفس الوقت، وأنه قد ينجح في القيام بمهمة واحدة على الأقل، لنا أن نتصور عدة وضعيات محتملة للمقال الفلسفي المنتظر من التلميذ أساسها الوضعيات الثلاث التالية:
ـ مقال الرأي:
وهو المقال الذي يعلن فيه التلميذ عن رأيه الشخصي ويدعمه بحجج منطقية وواقعية، لكن دون أن يغنيه بالحوار النقدي مع نظريات فلسفية متعلقة بالمشكل الفلسفي المطروح؛
في هذا النوع من الكتابة يعبر التلميذ عن قدرته على التفكير الذاتي، لكن يعبر أيضا عن جهله بآراء الفلاسفة أو تجاهله لها، وعن عجزه أو تكاسله عن ممارسة التفكير النقدي.
ـ المقال النقدي:
وهو المقال الذي يمارس فيه التلميذ حوار نقدي مع ما يستعرضه من آراء فلسفية.
في هذا النوع من الكتابة يعبر التلميذ عن إلمامه بآراء الفلاسفة وقدرته على الدخول في حوار نقدي مع ما يستعرضه من آراء فلسفية، لكن يعبر أيضا عن عجزه أو تكاسله عن ممارسة التفكير الذاتي المستقل.
ـ مقال الحكي:
وهو المقال الذي "يحكي" فيه التلميذ عن آراء الفلاسفة حول المشكل المطروح. أي "الحكي" ولاشيء غير "الحكي". دون التفكير الذاتي أو المحاورة النقدية للمحكي.
في هذا النوع من الكتابة يعبر التلميذ عن إلمامه بآراء الفلاسفة، لكن يعبر أيضا عن عجزه أو تكاسله عن التفكير الذاتي المستقل في المشكل المطروح، بل وعن عجزة أو تكاسله عن الدخول في حوار نقدي مع ما يستعرضه من آراء فلسفية.
في مقابل هذه الأنواع من الكتابة المقالية يصح الحديث عن المقال الفلسفي بالمعنى الشامل والدقيق للعبارة. فالمقال الفلسفي هو المقال الذي يعبر فيه التلميذ عن ثلاث قدرات متداخلة ومتفاعلة فيما بينها:
- القدرة على التفكير الذاتي؛
- القدرة على الحوار النقدي مع نظريات الفلاسفة؛
- القدرة على استرجاع آراء الفلاسفة وعلى التوظيف الجيد لها.
أريد أن أؤكد في نهاية هذا الدرس على أن الأصل في المقال الفلسفي هو "التفكير الذاتي" و "حل المشكلات الفلسفية بشكل شخصي". أما الحوار النقدي مع نظريات الفلاسفة فهو آلية لتدعيم التفكير الذاتي، يمكن من حيث المبدأ الاستغناء عنها واستبدالها بآليات أخرى لتدعيم التفكير الذاتي (الإشارة هنا لآليات توليد الأفكار الشخصية)، لكن لا ينبغي للتلميذ أن يستغني عنها لأنها ليست فقط آلية لتدعيم التفكير الذاتي بل أيضا آلية نقدية فعالة وبامتياز.
إن "التفكير الذاتي" قارة لم تكتشف بعد من طرف التلاميذ، ووحده درس الفلسفة قادر على الإبحار بالتلميذ إلى الحدود القصوى للغة ليكتشف هذه القارة. صحيح أن أصعب تمرين مدرسي على الاطلاق هو تمرين الكتابة الفلسفية، ومع ذلك لا أحد من حقه أن يقول: "حل المشكلة الفلسفية صعب". لو لم يكن الحل صعبا لما سميت "مشكلة" أصلا !
إن أقرب تمرين مدرسي للكتابة الفلسفية هو تمرين الرياضيات مع فارق اللغة؛ الطبيعية هنا، والرمزية هناك. بهذا الوضوح فقط يمكن أن نفهم مصدر الصعوبة النوعية التي تميز امتحان الفلسفة، صعوبة نوعية المنطلق الصحيح للتغلب عليها هو الوعي بحقيقتها.
أسئلة الفهم:
1 ـ عرف مقال الرأي وحدد نقط القوة والضعف فيه.
2 ـ عرف المقال النقدي وحدد نقط القوة والضعف فيه.
3 ـ عرف مقال الحكي وحدد نقط القوة والضعف فيه.
4 ـ عرف المقال الفلسفي وحدد مقوماته.