تجليات مفهوم الدولة من خلال فلم البداية

سعيد إيماني
بواسطة -
0

تجليات مفهوم الدولة من خلال فلم البداية
تجليات مفهوم الدولة من خلال فلم البداية


يعتبر فلم البداية للمخرج صلاح أبو سيف تحفة سينمائية مصرية أصيلة، زاخرة بالرموز والدلالات الفلسفية والسياسية العميقة. يمثل الفلم، الذي تدور أحداثه حول مجموعة من الناجين من تحطم طائرة في واحة نائية معزولة، نموذجا مصغرا للمجتمع الإنساني في لحظة تكوينه، ويطرح تساؤلات جوهرية وعميقة حول طبيعة الدولة، وأسس السلطة، والصراع الأزلي بين العدالة والاستبداد. يمكن لمدرسات ومدرسي مادة الفلسفة استثمار هذا الفلم، الذي أنتج في عام 1986، في الدرس الفلسفي، وتحديدا في مجزوءة السياسة، ضمن مفهوم الدولة، لتقديم تحليل نقدي معمق يتجاوز مجرد سرد الأحداث، ويستكشف بعمق أبعاد فلسفية وسياسية ربما لم يتوقف عندها المشاهد العادي.

الواحة كمجتمع مصغر: تجليات مفهوم الدولة

يجسد مشهد سقوط الطائرة في بداية الفلم، والذي يترك وراءه مجموعة من الناجين في قلب الصحراء، حالة الفوضى والبدائية التي تسبق نشأة الدولة. ففي غياب أي سلطة منظمة، يتصارع الأفراد من أجل البقاء، وتسود حالة من انعدام الثقة والفوضى. هذه الحالة تشبه إلى حد كبير ما وصفه الفلاسفة، مثل توماس هوبز وجون لوك، بالعقد الاجتماعي، حيث يتنازل الأفراد، أو يجب أن يتنازلوا، عن جزء من حريتهم الطبيعية مقابل الأمن والاستقرار الذي توفره الدولة. لكن، هل هذا التنازل ضروري دائما؟ وهل يؤدي دائما إلى قيام دولة عادلة؟

يمثل نبيه بك، الشخصية التي يجسدها ببراعة الفنان جميل راتب، نموذجا للحاكم المستبد الذي يستغل قوته ونفوذه لخدمة مصالحه الشخصية. يقيم نبيه بك نظاما قمعيا في الواحة، يعتمد على الخوف والترهيب، ويقصي كل من يهدد سلطته. هذا النموذج يذكرنا بالأنظمة الديكتاتورية التي عرفها التاريخ، والتي تعتمد على القوة والإكراه للبقاء في السلطة، وتظهر كيف يمكن للسلطة أن تتحول إلى أداة قمع واستغلال بدلا من أن تكون وسيلة لتحقيق الصالح العام.

في المقابل، يظهر عادل (أحمد زكي) كشخصية ثورية تطالب بالعدالة والمساواة، وتسعى إلى قلب نظام نبيه بك المستبد. يحاول عادل أن يقيم نظاما بديلا في الواحة، يقوم على احترام حقوق الأفراد، ويحقق التوازن بين السلطة والمسؤولية. هذا الصراع بين نبيه بك وعادل يجسد الصراع الأزلي بين الاستبداد والعدالة، ويطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة السلطة وأهدافها، وحول دور الفرد في مواجهة الظلم والدفاع عن حقوقه.

رموز فلسفية عميقة في فيلم البداية

لا يكتفي فلم البداية بتقديم قصة مشوقة وصراع درامي، بل يتجاوز ذلك ليطرح رؤية فلسفية عميقة من خلال مجموعة من الرموز والدلالات. يعتبر تمثال العجوة الذي صنعه نبيه بك رمزا هاما في الفلم، يستخدم نبيه بك هذا التمثال لفرض سلطته على أفراد الواحة، حيث يشيع الخوف والرعب في قلوبهم من خلال الاعتقاد بقدرته الخارقة. هذا الرمز يشير إلى استخدام الأنظمة المستبدة للدين والخرافات لترسيخ سلطتها وقمع أي معارضة، ويظهر كيف يمكن للدين أن يستغل كأداة للسيطرة والهيمنة.

يمثل الصراع بين نبيه بك وعادل صراعا بين جيلين مختلفين، وبين رؤيتين مختلفتين للمستقبل. نبيه بك يمثل الجيل القديم الذي يتمسك بالماضي وتقاليده، بينما عادل يمثل الجيل الشاب الذي يتطلع إلى المستقبل ويطالب بالتغيير. هذا الصراع يعكس التوتر الدائم بين المحافظة والتجديد في المجتمعات الإنسانية، ويظهر كيف يمكن للأفكار الجديدة أن تتحدى الأفكار القديمة، وكيف يمكن للأجيال الشابة أن تطالب بدورها في صناعة المستقبل.

لا يمكن أيضا تجاهل دور المرأة في الفلم، حيث تظهر فيه شخصيات نسائية متنوعة، منهن من يتعرضن للاستغلال والقمع، ومنهن من يحاولن التحرر من القيود الاجتماعية. هذا التنوع يسلط الضوء على وضع المرأة في المجتمعات التي تعاني من الاستبداد والتخلف، ويطرح تساؤلات حول دور المرأة في المجتمع ومساهمتها في التغيير الاجتماعي الحقيقي.

أسئلة فلسفية ملحة يثيرها الفلم

يثير فلم البداية مجموعة من الأسئلة الفلسفية الملحة التي لا تزال تطرح حتى يومنا هذا: 
  • هل الدولة ضرورة لتحقيق الأمن والاستقرار، أم أنها أداة للقمع والاستغلال؟ 
  • هل يمكن للمجتمع أن يعيش بدون دولة؟ 
هذه الأسئلة تطرح منذ القدم، ولا تزال تشغل المفكرين والفلاسفة حتى يومنا هذا، فالفلم يقدم نموذجا للدولة المستبدة التي تقوم على القوة والإكراه، ويطرح تساؤلات حول أسس الدولة العادلة التي تقوم على احترام حقوق الإنسان وتحقيق العدالة الاجتماعية. ما هي القيم والمبادئ التي يجب أن تقوم عليها الدولة لكي تكون عادلة؟

كذلك، لا يقتصر الفلم على طرح الأسئلة، بل يقدم أيضا إشارات إلى الإجابات المحتملة، بحيث يظهر الفلم كيف يمكن للأفراد والمجموعات أن تقاوم الاستبداد وتطالب بالحرية والعدالة. ما هي الأساليب والأدوات التي يمكن استخدامها لمواجهة الأنظمة القمعية؟ هل العنف هو الحل الوحيد، أم يمكن تحقيق التغيير من خلال الوسائل السلمية؟ هذه الأسئلة تظل مفتوحة للنقاش والتفكير، وتدعونا إلى التفكير النقدي في طبيعة السلطة والمجتمع.

البداية كأداة تربوية فعالة

يمكن إذن، استخدام فلم البداية كأداة تربوية فعالة في تدريس الفلسفة، وتحديدا في مجزوءة السياسة ومفهوم الدولة. يمكن عرض الفلم على التلاميذ أو أجزاء مختارة منه، ثم فتح نقاش حول القضايا الفلسفية التي يثيرها. وتمكين التلاميذ من تحليل الشخصيات والأحداث، واستخلاص الدروس والعبر التي تنقلها أحداث الفلم. وهو ما سيساهم  في تنمية التفكير النقدي لدى التلاميذ، ويشجعهم على التساؤل عن الأفكار والمفاهيم السائدة، وتحليل الظواهر السياسية والاجتماعية بشكل نقدي. يساعدهم على فهم دواعي نشوء الدولة وطبيعة السلطة، والصراع بين الاستبداد والعدالة، وأهمية المشاركة السياسية.

لا يقتصر دور الفلم على الترفيه والتثقيف، بل يمكن أن يكون له دور فعال في تغيير الوعي وتشكيل المواقف، وهو بهذا المعنى يمثل نموذجا يمكن تطبيقه على العديد من الأنظمة السياسية في العالم، ويمكن التلاميذ ربط أحداثه بالواقع المعاصر، ويساعدهم على تحليل الأوضاع السياسية في بلدانهم والعالم من حولهم، وكذلك على فهم التحديات التي تواجه المجتمعات الإنسانية، وأهمية العمل من أجل تحقيق العدالة والحرية.

عموما، يمثل فلم البداية لصلاح أبو سيف تحفة فنية تحمل في طياتها رؤية فلسفية عميقة لمفهوم الدولة، يثير تساؤلات جوهرية حول طبيعة السلطة، وأسس العدالة، والصراع بين الاستبداد والحرية، يمكن استخدامه كأداة تربوية في تدريس مادة الفلسفة بالنسبة لمستوى الثانية باكلوريا جميع المسالك، خصوصا في الشق المتعلق بقيام الدولة وممارسة السياسة، لتنمية التفكير النقدي لدى التلاميذ، وتشجيعهم على المشاركة في بناء مجتمعات عادلة وحرة، وتذكيرهم  بأهمية النضال من أجل الحرية والعدالة.
أتمنى ان أكون قد وفقت في نقل صورة موجزة عن الفلم، كما أشجع على استثماره مع التلاميذ من قبل أساتذة المادة، وإعادة قراءة أحداثه بلغة فلسفية تعبر عن مضامين مجزوؤة السياسة ككل. فرجة ممتعة من الرابط أسفله:

مشاهدة فلم البداية من هنا


إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(موافق) #days=(20)

يستخدم موقعنا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. تعرف أكثر
Ok, Go it!