جـدل العقـل والتجربـة

سعيد إيماني
بواسطة -
0

تحليـل ومناقشـة نـص: " جـدل العقـل والتجربـة"

غاستون باشـلار صفحة (33) كتاب في رحاب الفلسفة
بقلم الأستاذ: بدر الدين آيت بباعزيز

تحليـل ومناقشـة نـص: " جـدل العقـل والتجربـة"

تحليـل ومناقشـة نـص: " جـدل العقـل والتجربـة"

إذا كانت المعرفة فعالية إنسانية تسعى إلى وعي وفهم وتحليل القوانين التي تحكم الإنسان وتحكم عالمه الطبيعي. فإنها عرفت خاصة على مستوى المعرفة العلمية صراعا بين العقلانية والتجريبية. هذا الصراع تبلور على مستوى مفهومي النظرية والتجربة. 

فما دلالة هذين المفهومين؟

 تتحدد النظرية حسب معجم لالاند: "إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ " ما يعني أن النظرية بناء عقلي مجرد، تركيبي، استدلالي فرضي. أما التجربة فتعني في مجال المعرفة العلمية "القيام بإعادة إحداث ظاهرة ما لمعرفة القوانين المتحكمة فيها" إنها الوسيلة الأساسية التي يلتجئ إليها العالم التجريبي لمعرفة القوانين المتحكمة في الظواهر.

إن هذا الحوار بين النظرية (العقل) والتجربة (الواقع) يضعنا أمام مجموعة من الإشكالات تتعلق بالمعرفة العلمية يمكن ترجمتها إلى التساؤلات التالية:
  • كيف تتأسس العقلانية العلمية؟ ماهي خصائصها؟
  • ماهي الحدود الفاصلة بين ماهو علمي وماهو غير علمي في النظرية؟ 
  • ماهي العلاقة بين النظرية والتجربة؟ 
  • هل القول بأهمية التجربة تهميش لدور العقل؟ 
  • ألا يعتبر العقل أساسا في تحويل التجربة إلى نظرية علمية موضوعية؟ 
  • ألا يمكن أن يكون التكامل بين العقل والتجربة أساس اليقين في العقلانية العلمية المعاصرة؟ 
  • ماهي المشكلات الإبستيمولوجية التي تطرحها علاقة النظرية بالتجربة؟
كجواب على هذه الإشكاليات يقدم غاستون بشلار أطروحة مفادها أن العقلانية العلمية المعاصرة هي عقلانية فلسفية مطبقة وتجريبية، تقوم على يقين مزدوج يوجه النشاط العلمي التجريبي ويجعله مشروطا بحوار جدلي بين ماهو عقلي وما هو واقعي.
فما المقصود باليقين المزدوج؟ وكيف يساهم في تأسيس العلاقة الجدلية بين العقل والواقع أي بين النظرية والتجربة؟

إن اليقين المزدوج كميزة للمعرفة العلمية المعاصرة، يقصد به ذلك اليقين الذي ينشأ من الأطر العقلية والإنسجام المنطقي والتناسق الداخلي للنظرية العلمية في تفاعله وتكيفه مع الواقع التجريبي الذي يغذي النظرية العلمية بملاحظاته الدقيقة ومبادئه. إن هذا التفاعل هو ما يؤسس العلاقة الجدلية التكاملية بين العقل والتجربة.

ولبناء هذا التصور يوظف صاحب النص بنية مفاهيمية ابستيمولوجية لها علاقة بالمعرفة العلمية المعاصرة (العقل، التجربة، الحوار، اليقين المزدوج، الواقع، العقلانية، الإختبارية، الفيزياء المعاصرة، العقلانية المطبقة، المادية المبنية...) فالعلوم الفيزيائية المعاصرة لا تقوم على العقل في استقلال عن التجربة أو العكس. وبالتالي فهي علوم متحررة من النزعات العقلانية والإختبارية. وفي مقابل ذلك تقوم على الحوار الجدلي بين العقل والتجربة أو بين النظرية والواقع وهو ما يجعلها ذات يقين مزدوج يؤكد طبيعتها كعقلانية مطبقة وكمادية مبنية.

ولإقناعنا بهذا الموقف وظف صاحب النص غاستون باشلار بنية حجاجية قائمة على النقد والتركيب. فالنقد يظهر من بداية النص حيث يفتتح الفيلسوف نصه بنفي إمكانية تأسيس الفيزياء دون التكامل بين العقل والتجربة، وهو نفي ينطوي على نقد ضمني للإتجاه العقلاني والتجريبي في بناء المعرفة العلمية. وعلى ضوء هذا النفي يؤكد بشلار أن الفيزياء المعاصرة تنشئ عن التركيب بين العقل والتجربة لأنها تحتاج إلى يقين مستمد من العقل ويقين مستمد من الواقع. واستنتج في النهاية أن العقلانية العلمية عقلانية مطبقة يتفاعل فيها الوعي والمادية التقنية.

إن ما قدمه النص يستمد قيمته من رؤيته الإبستيمولوجية للمعرفة العلمية كمعرفة تتجاوز ماهو عقلي جهة وماهو تجريبي من جهة أخرى، نحو تحقيق نوع من التكامل والتكيف بين العقل والتجربة.

إن ما يمكن أن نخلص إليه من تحليل هذا النص هو رفض اعتبار الواقع المصدر الوحيد للمعرفة ورفض اعتبار العقل مكتملا ومكتفيا بذاته في بناء العلم. كما نخلص إلى أن النص يؤكد على أهمية الحوار الجدلي بين العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية، فهل من الضروري أن يتفاعل العقل والتجربة لبناء العلم؟ ألا يمكن الاكتفاء بالعقل وحده كأساس لبناء العلم على اعتبار أن التجربة قد تشكل عائقا بما قد تحمله من حس؟ ألا يمكن أن تكون التجربة وحدها مصدر العلم على اعتبار أن العقل قد ينحو بالعلم إلى ماهو ميتافيزيقي أحيانا؟ ماهي حدود التصور المعروض داخل النص؟ وإلى أي حد يمكن التسليم بما ذهب إليه باشلار في تصوره للمعرفة العلمية المعاصرة؟

تأكيدا لهذا الموقف من العلم الذي يزاوج بين العقل والتجربة، ينطلق الفيلسوف الألماني هانز رايشنباخ من نزعته الرافضة لكل التأملات الفلسفية الميتافيزيقية في صيغتها العقلانية التي سعت إلى بناء اليقين العلمية على أسس عقلية خالصة... متعالية عن دور الملاحظة والتجربة مما أدى بها إلى تأسيس معرفة أقرب إلى التصوف منها إلى العلم.

وفي مقابل ذلك أثبت أن المعرفة التي يتوصل إليها بمناهج معقولة تستخدم العقل مطبقا على مادة الملاحظة والتجربة ولارتباطها بالتجريب تسمى المعرفة العلمية لأن الملاحظة والتجريب على حد قوله مصدر للحقيقة العلمية في تفاعله مع الأطر العقلية.

وبدوره ينتقد الإبستيمولوجي الفرنسي روبير بلانشي النزعتين الصورية المثالية والإختبارية، ويعيد التفكير في العقلانية العلمية. ويجد هذا النقد المزدوج أسسه في عيوب كلا المذهبين، بحيث ينكر المذهب التجريبي دور العقل معتبرا إياه بمثابة مرآة تعكس معطيات التجربة. أما النزعة العقلانية الصورية فإنها تعتقد بمبادئها العقلية وقواعدها المنطقية معتبرة أن التجربة ليس لها دور فاعل في علمية النظريات.

ومن هنا أهمية العقلانية العلمية المعاصرة في تأكيد طبيعتها العقلانية التجريبية. التي تعتبر العقل العلمي في تكيفه مع الوقائع التجريبية، يراجع مبادئه وقواعده وينزع عنها صفة الثبات والإطلاق.

يتبين إذن، من تحليل ومناقشة هذا النص، أن العقلانية العلمية قد واكبت الفكر العلمي بتطوراته وأزماته، حيث انتقلت من تصور كلاسيكي يقوم على النظر إلى العقل كبنية مكتملة البناء ...إلى تصور يعتبر العقل بنية دينامية تتجدد بتجدد المعارف وعنصرا فاعلا في بناء المعرفة العلمية، دون أن يعني ذلك الوقوع في مثالية الذات أو العقل لأن العقل يظل مرتبطا بالتجربة بدرجات مختلفة وهو تصور تبلور في خضم التصورات العلمية المعاصرة.

إن الإشكاليات المطروحة حول بناء النظريات العلمية قد أدت إلى ميلاد إشكاليات ابستيمولوجية أخرى تتعلق بمعايير صلاحية النظريات العلمية، فكما تعددت الأطروحات وتنوعت في شأن بناء المعرفة العلمية تعددت كذلك المعايير والمقاييس التي تثبت مدى علميتها وصلاحيتها للعلم.

العقلانية Rationalisme: مذهب فلسفي وعلمي يقبل بواقعية عقل أو نظام من الأفكار أو نشاط روحي مستقل عن التجربة.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(موافق) #days=(20)

يستخدم موقعنا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. تعرف أكثر
Ok, Go it!