الحركة السوفسطائية

سعيد إيماني
بواسطة -
0
الحركة السوفسطائية
الحركة السوفسطائية


بدأت الفلسفة عند الإغريق مع الفلاسفة الطبيعيين الأوائل في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، مثل طاليس وأنكسِماندريس وهيراقليطس، الذين انشغلوا بتفسير الطبيعة والبحث عن المبدأ الأول الذي يفسر أصل الوجود، إلا أنه في القرن الخامس قبل الميلاد، برزت حركة فلسفية جديدة أطلق عليها اسم "السوفسطائيون". وكان هؤلاء يمثلون مدرسة فكرية وتعليمية ذات تأثير كبير على الحياة الفكرية والسياسية في أثينا.

السوفسطائيون: نشأة الحركة وتأثيرها

السوفسطائيون كانوا معلمين محترفين، وأشهرهم جورجياس، بروتاجوراس، وهيبياس. كانوا يعرضون مهاراتهم في فن الخطابة والبلاغة، ويعلمون تلامذتهم كيفية النجاح في الحياة السياسية والاجتماعية، وخاصة في النظام الديمقراطي، ومع ذلك، كانت تعاليمهم مكلفة للغاية، مما جعلها مقتصرة على أبناء الطبقة الأرستقراطية الثرية، ولم تكن في متناول الجميع.

أحد الأسباب التي جعلت السوفسطائيين مشهورين هو فوز الديمقراطيين في معركة سلاميس عام 480 ق.م ضد الفرس، لقد ارتبطت فلسفتهم بإيديولوجية الديمقراطية في ذلك الوقت، حيث كانوا يروجون لفكرة التعليم العام والسياسي، ويشجعون تلاميذهم على ممارسة الخطابة كوسيلة للتأثير في الشأن العام.

تعاليم السوفسطائيين: نقد المعتقدات والتقاليد

أحد الجوانب المثيرة في فلسفة السوفسطائيين هو نقدهم للمعايير الاجتماعية والقيم التقليدية، كانوا يشككون في الحقائق الثابتة ويطالبون بمراجعة مستمرة للقوانين والدساتير لتحقيق العدالة والمساواة، بروتاجوراس، على سبيل المثال، قال قولته الشهيرة: "الإنسان مقياس كل شيء"، مما يعني أن الحقيقة نسبية وأن ما يبدو صحيحًا لشخص قد يكون خاطئًا لآخر.

هذا التوجه نحو النسبية الأخلاقية والمعرفية أدى إلى تشكيك السوفسطائيين في القوانين والقيم التي كانت تخدم مصالح الأوليغارشية (النخبة الحاكمة). فقد رأوا أن هذه القوانين غالبًا ما كانت تُشرع لحماية مصالح فئة معينة على حساب الآخرين، وخاصة الفقراء والعبيد. وعليه، دعا السوفسطائيون إلى إصلاحات سياسية واجتماعية تتجاوز النظام القائم لتحقيق المساواة بين المواطنين.

ردة الفعل ضد السوفسطائيين: تشويه السمعة والقمع

رغم أن السوفسطائيين كانوا معلمين مهرة، إلا أن أفكارهم لم ترض الكثير من الطبقات الحاكمة في المجتمع اليوناني، وخاصة الأوليجارشية التي شعرت بالتهديد من دعواتهم إلى المساواة وتعديل القوانين. كما أنهم أحرجوا الديمقراطيين الذين تحالفوا مع الأوليجارشية ضد السوفسطائيين. لذلك، تعرض هؤلاء الفلاسفة للتشويه والاضطهاد، حيث صورهم بعض المؤرخين والفلاسفة (مثل أفلاطون) على أنهم مفسدون للقيم ومشوهون للأخلاق.

من بين الأمثلة البارزة على هذا الاضطهاد:

  1. مقتل هيبياس، أحد الزعماء السوفسطائيين، في مؤامرة سياسية دبرتها الأوليغارشية للقضاء على فكره.
  2. بروتاجوراس، الذي أُحرقت كتبه في الساحة العمومية وكاد أن يُقتل لولا هربه، لقد كان بروتاجوراس واحدًا من أبرز المنادين بالنسبية المعرفية، وكتب في مواضيع عديدة تتعلق بالعدالة والحقوق.

أفكار السوفسطائيين: مناهضة الاستبداد والدعوة إلى الإصلاح

كان السوفسطائيون يدعون إلى تحرر الإنسان من القيم والأعراف الجامدة والتفكير بعقلانية وواقعية في كيفية تنظيم المجتمع وتحقيق العدالة، وكانت دعواتهم إلى إعادة النظر في القوانين والأعراف تهدف إلى القضاء على الحيف والظلم الذي كان يعاني منه العديد من المواطنين، وأكدوا على أنه لا معنى للعبودية والرق في مجتمع يدعو إلى المساواة والحرية.

لقد كان للسوفسطائيين دور بارز في تعزيز التفكير النقدي، وتوجيه الناس نحو الشك في الأنظمة الاجتماعية والسياسية القائمة، دعوا إلى التفكير في كيفية تحسين الحياة العامة والانتقال من الأعراف القبلية والمحلية إلى مجتمع تحكمه المساواة وتُناقش فيه القرارات المتعلقة بالشأن العام بطرق ديمقراطية وعقلانية.

إرث السوفسطائيين

رغم أن السوفسطائيين تعرضوا للتشويه والتنكيل، إلا أن أفكارهم تركت بصمة عميقة في التاريخ الفكري، لقد مهدوا الطريق للفكر النقدي الذي سيتطور لاحقًا مع سقراط وأفلاطون وأرسطو، رغم أن هؤلاء الفلاسفة انتقدوا السوفسطائيين بشدة. كانت الحركة السوفسطائية تعبيرًا عن التحديات التي واجهت المجتمع الأثيني في ذلك الوقت، وخاصة في فترة الانتقال من حكم الأوليغارشية إلى الديمقراطية.
كان السوفسطائيون مثالًا حيًا على الفلاسفة الذين تحدوا الوضع القائم وسعوا إلى إصلاح القوانين والتقاليد لتحقيق العدالة والمساواة، لكن مقاومتهم للاستبداد ولمصالح الطبقات الحاكمة أدت إلى اضطهادهم وتشويه سمعتهم على مر العصور.


إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(موافق) #days=(20)

يستخدم موقعنا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. تعرف أكثر
Ok, Go it!