بقلم الأستاذ: محمد مستقيم
باروخ سبينوزا: الفيلسوف العقلاني (1632-1677)
ولد سبينوزا في أسرة يهودية مهاجرة من شبه الجزيرة الإبيرية، بسبب الاضطهاد الديني الذي عرفته أوربا آنذاك، على إثر الصراع المرير بين البروتستانت والكاثوليك. تربى على التراث اليهودي والتقاليد اليهودية، بل إن أسرته كانت تعده ليصبح حاخاما.لكنه خيب آمالها عندما غير اتجاهه الفكري وتعاطى لدراسة الفلسفة، حيث تأثر في البداية بالفيلسوف العربي اليهودي موسى ابن ميمون. وقاده ذلك إلى التمرد على التراث اليهودي الذي نشأ وتربى على أفكاره وتعاليمه، وقد ساعده على ذلك جو الحرية والنقاش الفلسفي الذي كان سائدا في هولندا التي كانت قبلة لجميع المذاهب والتيارات وكذلك الأفراد الذين يتعرضون للاضطهاد في بلدانهم نظرا لهيمنة المذهب الكاثوليكي على الكنيسة المسيحية في تلك الفترة وقمع كل التيارات التي تحاول الخروج عن سيطرته.
بعد تعلم اللاتينية اطلع على المؤلفات الفلسفية الكبرى التي انتشرت في عصره مثل مؤلفات ديكارت وفرنسيس بيكون ودفيد هيوم.. إن انحياز سبينوزا إلى الفلسفة وتركه للطقوس والشعائر الدينية أثار حفيظة الكنيس اليهودي فقام الحاخامات بإصدار فتوى ضده سنة 1656 ، كانت سببا في حرمانه من الإرث العائلي، فعاش معزولا بدون مورد معيشي مما اضطره إلى امتهان حرفة "نظاراتي" ، كما كان يضطر في كثير من الأحيان إلى مغادرة أمستردام ليعش بالضواحي خوفا من تعصب الطائفة اليهودية ، وفعلا فقد تعرض لمحاولة اغتيال من طرف أحدهم نجا منها دون خسائر . كذلك يرى بعض الباحثين بأن سبينوزا لم يكفر فقط بسبب عقائده وأفكاره بل أيضا بسبب آرائه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كانت تتعارض مع المصالح التجارية المسيطرة على يهود أمستردام، عن طريق شبكة الشركات التجارية الكبرى التي بدأت تهيمن على الاقتصاد الأوربي آنذاك، بالإضافة إلى ماعرف عنه من استهزائه لفكرة الشعب المختار التي كان يروج لها رجال الدين اليهود ويحاولون ترسيخها في عقائد الناس. فإذا كان سبينوزا متحررا فكريا وعقائديا سيكون كذلك على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، وهذا ما أثار حوله تلك الضجة الكبرى.
إن أفكار سبينوزا التي تميزت بالجدة والاجتهاد والجرأة قد جلبت له عدة متاعب شخصية حاصرته طيلة حياته إلى أن مات بمرض السل وعمره لا يتجاوز الخامسة والأربعين .
من القضايا التي كان يدافع عنها سبينوزا قضية الحرية وخصوصا الحرية الفكرية وحرية الشخص الإنساني، طبعا بدون المساس بحرية الآخرين، فالشخص هو إنسان ومواطن وينبغي التعامل معه من هذا المنطلق دون النظر على أصله أو دينه أو مذهبه، فالإنسان إنسان قبل كل شيء، ولا ينبغي كذلك معاداته لاعتناقه مذهبا أو عقيدة معينة، فهو لم يختر هذا المعتقد ولاذاك عندما ولد، ولم يخيره أحد لكي يولد في مجتمع تسود فيه عقيدة معينة، وبالتالي لا يجب محاسبته على شيء فرض عليه ولم يختره بنفسه بحرية.
لكن رغم دفاع سبينوزا الكبير عن الحرية الإنسانية وتحمسه لها ، فإنه موقفه هذا يدخل ضمن التصور العقلاني الذي ينطلق من أن كل شيء في الوجود خاضع للضرورة بما في ذلك الإنسان، والإنسان الحر في نظره هو الذي يستطيع أن يسيطر على شخصيته الفردية ويطبعها بمثله وقيمه العليا، بحيث تصبح هذه الفردية هي المتحكمة والمسيطرة على نشاطه ورغباته ومايوجد بينهما من ارتباط.
إن الناس عموما يتوهمون أنهم أحرار بسبب شعورهم بأفعالهم، وإن كانوا يجهلون العلل الأساسية التي تدفعهم للفعل. إذن ليست حرية الإنسان إلا جهل بالبواعث التي تدفعه إلى العمل أو إلى الاختيار، فلو علم بالأسباب المحددة لسلوكه لاقتنع بعدم حريته في كل مايتوهم أنه يختاره. وكمثال على ذلك أبرز سبينوزا أننا حين نرى الشمس نتخيل أنها قريبة منا في حين أنها تبعد بكثير عن كوكب الأرض، والسبب في هذا التصور الخاطىء هو الجهل بالمسافة الحقيقية التي تفصلنا عنها.
إنه التصور العقلاني الذي يرى بان الحرية الإنسانية هي أفعال وسلوكات تخضع لمنطق الضرورة أي نفس المنطق الذي تخضع له سائر الموجودات الطبيعية الأخرى، وهو منطق الأسباب والمسببات.
وقد أيده في ذلك عدد من الفلاسفة والمفكرين مثل الفيلسوف الألماني فردريك انجلز الذي يرى بأن الحرية لاتتمثل في الحلم بالاستقلال عن قوانين الطبيعة، بل في معرفة هذه القوانين، وفي الإمكانية المتاحة لوضع هذه القوانين بشكل منهجي في خدمة غايات محددة، وهذا صحيح بالنسبة لقوانين الطبيعة الخارجية، كما هو صحيح بالنسبة للقوانين المتحكمة في الوجود الفيزيائي والنفسي للإنسان ذاته. كما أن هذا الموقف ينسجم مع التصور العلمي الذي يفسر الحرية على أساس بيان تفاعلها مع الضرورة، أي أن الحرية هي الوعي بالضرورة وإدراكها، والضرورة توجد في الطبيعة والمجتمع على شكل قوانين موضوعية. فكلما ازداد الإنسان عمقا في إدراك القوانين الموضوعية كلما ازداد نشاطه وعيا وحرية.
مؤلفات سبينوزا:
1- مبادىء فلسفة رونيه ديكارت
2- رسالة في السياسة واللاهوت
3- الأخلاق
4- إصلاح العقل
5- الرسالة القصيرة في الله والإنسان وسعادته
6- أفكار ميتافيزيقية
7- الرسائل
مراجع:
1- مدخل إلى التنوير الأوربي- هاشم صالح- دار الطليعة .بيروت:
2- سبينوزا: د. فؤاد زكريا-سلسة الفكر المعاصر- دار التنوير- يبروت1981
Spinoza et le spinosizme- joseph moreau Que sais-je ?no : 1422-3