مقدمة عن الفلسفة الوجودية:
تعد الفلسفة الوجودية من أهم وأشهر الفلسفات الغربية المعاصرة، بالنظر إلى الأسماء التي انتسبت إليها وإلى عدد المؤلفات التي صنفها كبار الفلاسفة
الوجوديون، كما أن هناك عامل آخر ساهم في انتشار هذه الفلسفة وهو أن كثيرا من هؤلاء الفلاسفة عبروا عن أفكارهم عن طريق نشر إبداعات أدبية مثل الشعر والرواية والمسرح، بالإضافة إلى كتبهم التي تتضمن الأطروحات الأساسية للفلسفة الوجودية.
ظهرت الفلسفة الوجودية نتيجة لعد عوامل اجتماعية وسياسية وتاريخية وثقافية يمكن إجمالها فيما يلي:
- عرفت أوربا خلال القرن العشرين حربين عالميتين أدتا إلى تدمير هائل في البنيات الأساسية لتلك المجتمعات بالإضافة موت أعداد كبيرة من الناس، الشيء الذي أدى التشتت الأسري والتغير في العلاقات الاجتماعية بسبب الدمار المادي والمعنوي الذي تعرض له الإنسان الأوربي فظهرت أمراض واضطرابات نفسية وعقلية نتيجة لهذا الجو الذي أصبح عنوانه الموت . كما بدأ الفلاسفة يناقشون قضية الموت وحرية الإنسان وعلاقته بالغير الخ...
- بدأ الناس يتساءلون حول جدوى التقدم العلمي إذا كان يساهم في صناعة الدمار عن طريق ابتكار الأسلحة الفتاكة،والقضاء على الحياة بصفة عامة ، فرأى كثير من الفلاسفة أن التطور العلمي إذا ما تطور في هذا الاتجاه سيصبح خطرا على الوجود الإنساني برمته، كما أن تطور الآلة سيفرغ الإنسان من إنسانيته ويتعامل معه كوسيلة لتحقيق الربح وتنمية الرأسمال المادي عوض الاهتمام بقيمة الإنسان واعتباره غاية في ذاته انطلاقا من احترام كرامته وعدم الدوس عليها كيفما كانت الظروف والأسباب.
- انتشار الفلسفات المثالية التي تمجد العقل والفكر المطلق على حساب الإنسان الواقعي الذي يعيش في ظروف اقتصادية واجتماعية جد معقدة، حيث نادى الفلاسفة الوجوديون بضرورة تجاوز التصور المثالي للإنسان والعالم وعدم اعتبار المطلق هو الحقيقة الوحيدة في العالم، لأن في ذلك تهميش لشخص الإنسان وحقيقته الوجودية الملموسة. فالإنسان كائن حي واع يتمتع بحرية واستقلال ذاتي ويتميز عن باقي الكائنات الأخرى بهذه الخاصيات والمميزات.
- تتجلى الأصول الفكرية للفلسفة الوجودية في ذلك التراث الوجودي الذي تراكم من إنتاجات بعض الفلاسفة الذي ثاروا على الفلسفات النسقية والمثالية ، أمثال الدانماركي سورين كيركجارد والألماني فرديريك نيتشه والفرنسي هنري برغسون، بالإضافة إلى الدور الذي لعبه المذهب الفينومينولوجي في بلورة كثير من الأفكار الوجودية خاصة من خلال كتابات مؤسسه إدموند هوسرل .
من أعلام الفلسفة الوجودية:
جان بول سارتر وغابرييل مارسيل وألبير كامو، ومارتن هيدجر وسورين كيركجارد وكارل ياسبرز، وفي العالم العربي رفع راية الوجودية الفيلسوف المصري الدكتور عبد الرحمان بدوي الذي ساهم في نشر الفلسفة الوجودية في الثقافة العربية المعاصرة عن طريق كتاباته المتنوعة في مختلف المجالات الفكرية والأدبية والفنية، بالإضافة إلى تحقيقاته التراثية وترجماته لكثير من النصوص الفلسفية اليونانية والأوربية الحديثة والمعاصرة.
- تدور معظم الأطروحات التي أنتجها الفلاسفة الوجوديون من كيركجارد إلى سارتر، حول قضية كبرى هي "الوجود الإنساني" في مختلف تجلياته المادية والمعنوية، وما يرتبط بهذا الوجود من قضايا الحياة والموت والمعاناة والقلق...لقد سبق للفكر الإنساني عبر العصور أن عالج مثل هذه القضايا لكن الفلسفة الوجودية تناولتها انطلاقا من زوايا ووجهات نظر جديدة ترتبط أساسا كما رأينا بظروف العصر وبالعوامل التي رافقت أوضاع الإنسان المعاصر. فالإنسان ليس فقط كائنا عاقلا وواعيا يعيش بعقله وفكره بل كائن حي يعيش تجارب ملموسة ويواجه مصائر متعددة تهدد وجوده باستمرار و قد تعصف به في أية لحظة. والإنسان هو خالق ذاته في كل لحظة بحرية ومسؤولية، لذلك فالفرد يتخذ قراراته بشكل شخصي وحر، وما هو إلا مجرد مشروع يصمم ويبني نفسه بنفسه.
الوجود الإنساني عند سارتر:
ينطلق جان بول سارتر من وضع تقابل بين وجود الشيء وماهيته أي صفاته الجوهرية، ثم يبدأ بطرح مجموعة من التساؤلات: أيهما أسبق من الآخر؟ هل يوجد الشيء أولا ثم تتكون بعد ذلك ماهيته وصفاته؟ أم أن الماهية والصفات تكون أسبق من وجود الشيء نفسه؟
وقد أجاب سارتر بأن الأشياء الجامدة المصنوعة تكون ماهيتها أسبق من وجودها، مثال ذلك هذا الكتاب الذي تم صنعه فقد حدد الصانع في ذهنه ماهية هذا الكتاب قبل إخراجه إلى الوجود، ومن هنا تكون الماهية أسبق من الوجود، وهي التي أدت إلى خروج الشيء إلى الواقع، بحيث لا تستطيع مثل هذه الأشياء المصنوعة أن تضيف لنفسها ماهيات أو صفات جديدة. لكن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يسبق وجوده ماهيته. وهنا يختلف سارتر مع كل الفلاسفة الذين يعطون الأسبقية للماهية على الوجود من أرسطو إلى ديكارت. فهو يرى بأن إعطاء الأسبقية للماهية على الوجود من شأنه أن يحد من حرية الإنسان ويفرض عليه مجموعة من الصفات لا يستطيع التخلص منها. فالإنسان حر وقد قذف به في هذا العالم فبدأ يكون نفسه بنفسه ويحدد صفاته كما يريد وهذا مايجعله متميزا عن باقي الكائنات الأخرى.
يقول سارتر: هناك كائن على الأقل قد تواجد قبل أن تتحدد معالمه وتبين. وهذا الكائن هو الإنسان، أو أنه كما يقول هيدجر، الواقع الإنساني، بمعنى أن وجوده كان سابقا على ماهيته. والآن ماذا نعني عندما نقول إن الوجود سابق على الماهية؟
إننا نعني أن الإنسان يوجد أولا، ثم يتعرف على نفسه، ويحتك بالعالم الخارجي، فتكون له صفاته، ويختار لنفسه أشياء هي التي تحدده، فإذا لم يكن للإنسان في بداية حياته صفات محددة، فذلك لأنه قد بدأ من الصفر. بدأ ولم يكن شيئا. وهو لن يكون شيئا إلا بعد ذلك، ولن يكون سوى ماقدره لنفسه. إن الإنسان يوجد ثم يريد أن يكون، ويكون ما يريد أن يكونه بعد القفزة التي يقفزها إلى الوجود. والإنسان ليس سوى ما يصنعه هو بنفسه. هذا هو المبدأ الأول من مبادىء الوجودية، وهذا هو ما يسميه الناس "ذاتيتها"، مستخدمين هذا الكلمة ليوجهوا بها النقد إلينا. لكننا لانعني بها سوى أن للإنسان كرامة أكبر مما للحجارة أو المنضدة، وهو يكون شيئا، يمتد بذاته نحو المستقبل، وهو يعي أنه يمتد بها إلى المستقبل، فالإنسان مشروع، مشروع يمتلك حياة ذاتية، بدلا من أن يكون شيئا كالطحلب."
ج ب سارتر: -الوجودية مذهب إنساني- ترجمة د. عبد المنعم الحفني.
ومادام الوجود سابقا على الماهية، فإن الإنسان هو عبارة عن مشروع يحدد هو بنفسه خصائصه وصفاته وماهيته التي يختارها لنفسه ويعمل على تنفيذها في حياته. هكذا يمكن الاستنتاج من هذه الفكرة أن القول بأسبقية الوجود على الماهية يعني أن الإنسان حر في حياته وفي اختياراته، وهذا الاختيار هو تأكيد لإنسانية الإنسان. لكن هذا الاختيار ليس فرديا بل هو مرتبط بالالتزام أي أن الفرد يلتزم بمواقف إنسانية وصفات نافعة يمكن أن تعمل على تقدم المجتمع الإنساني.
انطلاقا من ذلك يقسم سارتر الوجود إلى ثلاثة أنواع وهي:
- الوجود في ذاته وهو الوجود غير الواعي الذي يمثل وجود الأشياء والعالم المادي والظواهر المرتبطة به.
- الوجود لذاته ويمثل الوعي منظورا إليه في ذاته كأنه في حالة انعزال، وهو نقيض الوجود في ذاته، إنه الذات أي الإنسان بماهو إنسان.
- الوجود للغير وهو نفسه الوعي الذاتي لكن في ارتباطه بالآخرين، لأن الذات ليست موجودة وحدها في هذا العالم، وإنما ترتبط مع الآخرين بعلاقات متعددة.
وهناك صراع مستمر بين الوجود للذات والوجود للغير، فالثاني يحاول اجتذاب الأول إلى مجال الآخرين، بينما تسعى الذات لاسترداد ذاتيتها من هذا الجانب.