مجزوءة المعرفة، مفهومي النظرية والتجربة لأحمد جابر
تشكل المعرفة بعدا هاما يكشف عن الفاعلية البشرية بوصفها فاعلية مبدعة تمكن الإنسان بواسطتها من تحقيق تقدم كبيرفي التعرف على حقائق الكون وأسرار الحياة. فالإنسان يتحدد ككائن عارف (Homo Sapiens) يتمكن من خلال وعيه بذاته وبالأشياء من حوله أن ينتج معارف يتعقل بها العالم الذي يعيش فيه. كما أن قدرته على صنع الأدوات (Homo Faber) تعتمد بشكل كبير على فاعليته المعرفية، أو هي بالأحرى امتداد لها من خلال تحويل المعارف النظرية إلى تقنيات عملية تطبيقية.
وباستقراء التاريخ البشري، يتبين لنا مدى التقدم الذي حققه الإنسان في إنتاج المعارف المختلفة سعيا وراء امتلاك فهم للظواهر المتنوعة التي أثارت اهتمامه.ومن أبرز التطورات الفكرية التي ميزت مجال المعرفة ظهور المعرفة العلمية -في العصور الحديثة -كنمط من التفكير فتح أمام الإنسان آفاقا جديدة في تطوير معارفه؛ وذلك بدءا بالعلوم الطبيعية (عصر النهضة) التي أبانت عن فعاليتها في الكشف عن قوانين عالم الطبيعة، وصولا إلى العلوم الإنسانية (ق19/20) التي تمثل محاولة لاستكناه الوجود الإنساني ومحدداته.
فبفضل اعتمادها على منهج دقيق يقوم على الملاحظة والتجريب، حققت العلوم الطبيعية -أو الحقة -نجاحا باهرا في الكشف عن القوانين المتحكمة في الظواهر الطبيعية موفرة بذلك إمكانية التنبؤ كتعبير عن التحكم في الطبيعة بدل الخضوع لها... كما أن الإنسان سيجعل من ذاته موضوعا للمعرفة مع نشوء العلوم الإنسانية كمؤشر على اتساع دائرة المعرفة العلمية من خلال السعي نحو اكتشاف عالم الإنسان بعد اكتساح العلوم لعالم الطبيعة. غير أن هذا التقدم المعرفي الذي راكمته البشرية قد أفرز -في المقابل -إشكالات نظرية تتنوع حسب المستويات والمجالات التي ينفتح عليها مفهوم المعرفة بشكل عام، والمعرفة العلمية بشكل خاص، ومن أبرزها:
- الإشكالية المرتبطة بطريقة بناء الحقيقة العلمية في علاقتها بكل من التجربة والنظرية.
- إشكالية "العلمية" التي تطرحها العلوم الإنسانية في ظل هيمنة النموذج العلمي الذي رسخته العلوم الطبيعية أو التجريبية.
- الإشكالية المرتبطة ب "الحقيقة"، بمعناها العام، وذلك من حيث تحديد طبيعتها ومعاييرها وقيمتها.
النظرية والتجربة:
تعد كل من النظرية والتجربة من المكونات الأساسية للمعرفة العلمية بوصفها معرفة تنتج مفاهيم وقوانين تأخذ طابعا نظريا مجردا، وتعتمد -في ذات الوقت- على التجارب العلمية في بناء حقائقها. ومن ثم شكلت العلاقة بين هذين العنصرين إحدى القضايا التي أفرزت مواقف متنوعة في حقل الدراسات الإبستيمولوجية، وذلك نظرا للتقابل الذي يبدو بين النظرية كنتاج عقلي خالص، وبين التجربة المرتبطة بالواقع الملموس.
ومن حيث الدلالة، نجد أن لفظ "النظرية" يأخذ، في الاستعمال المتداول، معنى الرأي الشخصي أو الحكم الذي يتبناه المرء بصدد قضية ما. كما يحيل، من حيث معناه اللغوي، على الرؤية والملاحظة وعلى التأمل أو النظر العقلي. أما في المجال العلمي، فمفهوم "النظرية" يشير إلى البناء الفكري الذي يأخذ صورة نسق من المبادىء والقوانين التي يتم بها تفسير الظواهر التي تمثل موضوع البحث.
وبخصوص لفظ "التجربة"، يذهب معناه الشائع إلى مجموع ما يراكمه الإنسان من خبرات في مسار حياته، كما يشير إلى اكتساب مهارة معينة ينتج عنها إتقان عمل أو مهنة ما. أما المعنى المتعارف عليه، في المجال العلمي، فيحدد المفهوم في إعادة إحداث أو صنع الظاهرة -موضوع الدراسة- من أجل الكشف عن القانون الضابط لها. ولذلك يمثل التجريب لحظة حاسمة في مسار المنهج التجريبي، الذي تأسس في إطار العلوم الطبيعية، يتوقف عليها إثبات أو نفي الفرضية / النظرية التي يفسر بها العالم الواقع المدروس.
ومن خلال هذه التحديدات، يتيبن أن دلالة "النظرية" تميل إلى إضفاء طابع تجريدي يجعل من المفهوم بناء فكريا يحيل على العقل ويتعالى على ما هو تجريبي ملموس، بينما تجنح معاني "التجربة" نحو جعلها مجالا لحضور الواقعي والملموس وغياب التفكير أو تقلص حضوره؛ وهو ما سيثير مسألة تحديد دور التجربة العلمية والعقل في بناء الحقيقة العلمية، والمعايير التي تستند إليها مصداقية أو صلاحية النظريات العلمية.
يمكن تحميل الملف من الرابط أسفله:
أو