ملاحظة أساسية:
ــــــــــــــــــــــــــ
انتقد أحد الزملاء التقسيم الذي تقدمت به لأنواع المقال الفلسفي، من جهة أن ما سميته بمقال الحكي قد يتضمن فيما يستظهره التلميذ من معلومات من الدرس حوارا نقديا مع مواقف الفلاسفة.
وأقول بأن هذا صحيح بالفعل. لكن التقسيم الذي اقترحته لأنواع المقال إلى مقال حكي، ومقال نقدي، ومقال رأي، ومقال فلسفي هو بالنظر لقصد التلميذ وممارسته من جهة، وبالنظر للمهارات التي تفترضها الكتابة الفلسفية من جهة أخرى. والهاجس الديداكتيكي الذي دفعني إلى ابتكار هذه المقاربة هو تنهيج عملية تعلم الكتابة الفلسفية. وقد قمت بتجريبها مع تلامذتي وتأكد لي أنها طريقة جيدة من الناحية الإجرائية. وسأعرض في هذه السلسلة نماذج من كتابات تلامذتي لكل الأنواع التي ذكرت. وقد حرصت لضمان نجاح هذه الطريقة على إلزام التلاميذ في بعض فروض المراقبة المستمرة أو في التمارين الفلسفية بنوع معين من الكتابة المقالية، ولضمان تحقيق ذلك كنت أحيانا أمرنهم باعتماد مفاهيم من خارج المقرر. من مثل: هل للحياة معنى بوجود الموت؟ وكنت ألاحظ أن التلميذ يبدع في الكتابة الفلسفية كلما تحرر من المقرر. ولذلك أعتقد بأن تحليل قصد التلميذ وسلوكه في الكتابة، وتجزيء مقومات الكتابة الفلسفية إلى مهارات جزئية يتم تمرين التلميذ عليها من حلال التمارين الجزئية التي تتدرج به نحو التمرين التركيبي الكلي، مسألة أساسية لتنهيج عملية إكساب التلميذ مهارات الكتابة الفلسفية، وحل مناسب لهذا المشكل الذي يؤرق أساتذة مادة الفلسفة والمتمثل في ميل التلاميذ إلى الجاهز من المعارف الفلسفية؛ أي ميلهم إلى ما سميته بمقال الحكي. أعتقد بأن الحل الأمثل لهذا المشكل هو أن نسلم للتلميذ بهذا النوع من الكتابة (مقال الحكي) ونعتمده في بعض فروض المراقبة المستمرة وفي التمارين كآلية لتتبيث المعارف الفلسفية وتقويمها، ونلزمه في فروض أخرى للمراقبة المستمرة بالمقال النقدي أو مقال الرأي. وكل ذلك للتدرج به نحو المقال الفلسفي بالمعنى الدقيق والصحيح للعبارة. لكن يبقى شرط نجاح هذه المقاربة التي أقترحها هو التعاقد الواضح مع التلميذ منذ البداية وبرمجة حصص رسمية للمنهجية والتمارين طيلة السنة.
تقديم:
ــــــــــ
تحدثنا في الدرس السابق عن مقال الحكي. في هذا الدرس نتحدث بنوع من التفصيل عن المقال النقدي، وعن تصميمه، وعن نقط القوة والضعف فيه، ونقدم نماذج لهذا النوع من الكتابة المقالية.
تعريف المقال النقدي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هو المقال الذي يمارس فيه التلميذ حوارا نقديا مع ما يستعرضه من مواقف فلسفية أو آراء متداولة. وحتى لا يقع التلميذ ضحية الغموض وانعدام الدقة في ممارسته النقدية، لابد من الإجابة عن السؤال: ما النقد؟
يغلب الظن في أوساط التلاميذ على أن النقد هو معارضة، أو رفض، أو تخطيء، أو إبراز لجوانب الضعف في الآراء الفلسفية موضوع النقد. وهذا غير صحيح. وما يزيد في طين الغموض وانعدام الدقة بلة التداخل الدلالي بين النقد والانتقاد، بين العقل الناقد والعقل المنتقد (لاحظ الفرق في الصيغ الصرفية: بين نقد وانتقد، بين فعل وافتعل، بين الفاعل والمفتعل)، وغياب تقاليد النقد البناء في مجتمع الحوار فيه والإنصاف بضاعة نادرة.
ننطلق في تحديدنا لمفهوم النقد ومقتضياته من دلالته اللغوية. يقول ابن منظور في لسان العرب: "تقول العرب: نقد الدراهم؛ أي ميز جيدها من رديئها"؛ فالنقد إذن، من حيث المبدأ وفي الوضع الأمثل، ممارسة موضوعية تتسم بالعمق وتستهدف إبراز قيمة الفكرة وحدودها في نفس الوقت. وبهذا التعريف يكون المقال النقدي هو ذلك المقال الذي يبرز فيه التلميذ قيمة وحدود ما يستعرضه من مواقف فلسفية أو آراء متداولة.
الإستراتيجية النقدية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعتبر الإستراتيجية النقدية من مقومات الكتابة النقدية، ولذا وجب تعريفها وضبط إجراءاتها من الناحية العملية.
الإستراتيجية النقدية هي فن توزيع مختلف الوسائل النقدية واستخدامها، لإبراز قيمة فكرة أو موقف وحدودها، عبر مراحل متدرجة زمنيا ومنطقيا.
يفترض في الإستراتيجية النقدية من حيث المبدأ وفي الوضع الأمثل:
ـ عرض موضوعي ومحايد للموقف الفلسفي؛
ـ عرض موضوعي ومحايد لحججه؛
ـ إبراز قيمة هذا الموقف وقيمة حججه؛
ـ إبراز حدود هذا الموقف وحدود حججه.
لكن هذا قد لا يحدث دائما. فقد يختار التلميذ إستراتيجية نقدية تعتمد إبراز القيمة فقط، أو الحدود فقط. كما قد يختار أسلوب التهكم في عرض الموقف الفلسفي عوض العرض الموضوعي والمحايد، إلى آخر ما هنالك من استراتيجيات نقدية متاحة. (يراجع الدرس الثاني من سلسلة دروس الحجاج الفلسفي حول الإستراتيجية الحجاجية)
تقنيات الدحض والرد :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الضروري معرفة تقنيات الدحض والرد فهي من مقومات المقال النقدي.
ـ الدحض هو حجاج مضاد أي اعتراض؛
ـ الرد هو جواب على اعتراضات.
إجراءات الدحض والرد متعددة أهمها:
ـ الدحض المباشر: لا... لأن....
ـ الدحض غير المباشر: نعم... ولكن...
تصميم المقال النقدي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــ مقدمة تتضمن:
ـ تمهيد مناسب
ـ طرح الإشكال
ـ إعلان تصميم العرض (عنصر اختياري)
ـــ العرض:
ـ عدد فقرات العرض ومضمون كل فقرة يتحدد في المقال النقدي بالإستراتيجية النقدية التي يعتمدها التلميذ.
فمثلا يمكن اعتماد الإستراتيجية النقدية التالية:
فقرة 1:
ـ عرض موضوعي ومحايد للموقف الفلسفي 1؛
ـ عرض موضوعي ومحايد لحججه؛
ـ إبراز قيمة هذا الموقف وقيمة حججه؛
ـ إبراز حدود هذا الموقف وحدود حججه.
فقرة 2:
ـ عرض موضوعي ومحايد للموقف الفلسفي 2؛
ـ عرض موضوعي ومحايد لحججه؛
ـ إبراز قيمة هذا الموقف وقيمة حججه؛
ـ إبراز حدود هذا الموقف وحدود حججه.
إلخ....
أو اعتماد الإستراتيجية النقدية التالية:
فقرة 1:
ـ عرض موضوعي ومحايد للموقف الفلسفي 1؛
ـ إبراز قيمة هذا الموقف وقيمة حججه؛
ـ إبراز حدود هذا الموقف وحدود حججه.
فقرة 2:
ـ عرض موضوعي ومحايد للموقف الفلسفي 2؛
ـ إبراز قيمة هذا الموقف وقيمة حججه؛
ـ إبراز حدود هذا الموقف وحدود حججه.
إلخ....
أو اعتماد الإستراتيجية النقدية التالية:
فقرة 1:
ـ عرض بأسلوب السخرية للموقف الفلسفي 1؛
ـ إبراز حدود هذا الموقف وحدود حججه.
فقرة 2:
ـ عرض بأسلوب السخرية للموقف الفلسفي 2؛
ـ إبراز حدود هذا الموقف وحدود حججه.
إلخ....
ـــ الخاتمة تتضمن:
ـ حصيلة مسار العرض؛
ـ انفتاح على إشكال جديد(عنصر اختياري).
نقط القوة:
ــــــــــــــــ
ـ يعبر عن إلمام التلميذ بآراء الفلاسفة؛
ـ يعبر عن قدرة التلميذ على الدخول في حوار نقدي مع ما يستعرضه من آراء فلسفية؛
ـ وجود عقل ناقد لدى التلميذ يؤشر على مناعة واستقلالية في الفكر؛
ـ يعبر عن أخلاق الإنصاف الفكري عند إبرازه القيمة والحدود في نفس الوقت؛
ـ الموضوعية.
نقط الضعف:
ـــــــــــــــــــ
ـ يعبر عن عجز التلميذ أو تكاسله عن ممارسة التفكير الذاتي المستقل.
ـ غياب الموضوعية في حالة استخدام أسلوب السخرية؛
ـ غياب أخلاق الإنصاف الفكري عند إبرازه القيمة فقط أو الحدود فقط؛
ـ استحالة استخدامه في حالة المواضيع التي تطرح خارج الإشكالات المقررة؛
ـ خطر الخروج عن الموضوع عند استخدامه في حالة المواضيع التي تطرح خارج الإشكالات المقررة؛ فمثلا إذا طرح السؤال التالي في الامتحان: هل يصح الحديث عن تقدم في تاريخ الفلسفة مثلما نتحدث عن تقدم في تاريخ العلم؟ قد يعتقد التلميذ أن الإشكال المطروح في هذا السؤال هو نفسه المطروح في محور التاريخ وفكرة التقدم من درس التاريخ. فإذا استخدم تصورات الفلاسفة التي تعرف عليها في هذا المحور، ودون "تكييف"، في إطار مقال نقدي استحق عمله النقطة التي يستوجبها الخروج عن الإشكال.
نموذج تطبيقي:
ــــــــــــــــــــــــ
تأمل الفقرة التالية:
1. أبرز باشلار ضرورة إنفصال النظرية (المعرفة العلمية) عن الممارسة أو التجربة العادية. يقول في هذا الإطار: "إن النزوعات العادية للمعرفة لا يمكن لها، إذ تستمد حوافزها من النزعة النفعية…أن تكون انطلاقتها وكذا الاتجاه الذي تسير فيه، إلا خاطئين." وبادئ الرأي مخطئ، من حيث المبدأ، دائما إنه يفكر تفكيرا سيئا، بل إنه لا يفكر، وإنما يترجم حاجات إلى معارف". على هذا يمكن التمييز في النظرية، بنظر باشلار، بين مستويين: مستوى النظرية المقترنة بالممارسة العملية اليومية النفعية، وهذه النظرية إن تبد مفيدة للحياة العملية وكافية لها، فإنها لا تفيد في بناء معرفة دقيقة ومؤسسة ومتماسكة عن الواقع. فهي نتيجة لتجربة متراكمة، مختلطة يمكن أن تحتوي بدون وعي أخطاء وأوهاما وتناقضات وأحكاما مسبقة تشوه الواقع وتحول دون معرفته على حقيقته بشكل موضوعي. ومستوى النظرية العقلية الخالصة، التي يتم إنتاجها في مستوى الفكر المجرد، في استقلال عن المنفعة المباشرة وبناء على عمليات عقلية استدلالية دقيقة. وهو ما يرشحها أن تتحرر من كافة عيوب المعرفة العامية.
2. لكن يحق لنا أن نتساءل إلى أي حد يمكن القول بأن النظرية منفصلة عن الممارسة؟ ألا يبدو أنه ما من فعل معقد أو بسيط إلا ويتضمن حدا أدنى من النظرية؟
3. في حقيقة الأمر لا تنفصل النظرية عن الممارسة العملية البشرية، بل هي جزء منها مكمل لها. فالممارسة أو التجربة الخالصة المستغنية عن النظرية لا وجود لها إلا لدى المتصوفة وفي لحظات الوجد والغيبوبة، حين تنقطع صلتهم بالعالم والآخرين، أما في الأحوال العادية فإنه ما من فعل أو عمل معقد أو بسيط، تلقائي أو تقني، إلا ويتضمن حدا أدنى من النظرية. 4. وذلك ما ببينه مالينوفسكي في مجال الانثروبولوجيا الذي أكد أن النظرية ترتبط حتى بالممارسة العملية البدائية. 5. كما بينه أيضا بياجيه في مجال علم النفس التكويني الذي أكد بدوره أن عملية المعرفة تتم عن طريق استيعاب الواقع، أي إدماجه في بنيات ذهنية سابقة، أي أن المعرفة (النظرية) تنشأ بواسطة العمل ومن خلاله.
لندرس تصميم هذه الفقرة ولحظاتها الكبرى، ولنبرز خصوصية كل لحظة، ولنستنتج نوعها.
الأرقام الموضوعة في الفقرة تشير إلى لحظاتها:
1 ـ عرض موضوعي ومحايد لموقف باشلار معزز بحججه؛
2 ـ سؤال تقويمي أو نقدي ينقلنا لممارسة النقد على موقف باشلار؛
3 ـ إبراز حدود هذا الموقف وحدود حججه؛
4 ـ تأكيد وتدعيم لهذه الحدود بالإحالة على موقف فلسفي معارض: موقف مالينوفسكي؛
5 ـ تأكيد وتدعيم لهذه الحدود بالإحالة على موقف فلسفي آخر معارض: موقف بياجي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أسئلة الفهم:
ــــــــــــــــــــ
1ـ عرف المقال النقدي.
2ـ ما هي نقط القوة في المقال النقدي.
3ـ ما هي نقط الضعف في المقال النقدي.
4ـ ما الذي يحدد عدد فقرات العرض ومضمون كل فقرة في المقال النقدي.
5ـ متى يستحيل استخدام المقال النقدي؟ ولماذا؟
6 ـ عرف الدحض.
7 ـ عرف الرد.
8 ـ اذكر أهم تقنيات الدحض والرد.
9 ـ عرف الإستراتيجية النقدية. ومثل لها.
تمرين 1:
ـــــــــــــــ
تأمل الفقرة التالية:
كشفت العلوم الإنسانية عن كون الإنسان محكوم بسلسلة من الحتميات تُشرط سلوكياته وتتحكم فيها بصورة مطلقة. إن الإنسان من هذا المنظور يكون خاضعا إما لحتمية اللاشعور (المقاربة النفسية)، أو الإكراهات الاجتماعية وضغط المؤسسات الاجتماعية (المقاربة السوسيولوجية)، أو يخضع لحتمية عضويته أو تكوينه البيولوجي وشكله الخارجي ومظهره (المقاربة البيولوجية). إن هذا الاتجاه الذي نجده في العلوم الإنسانية نحو الإقرار بحتمية ما، يرجع إلى الهاجس الذي طغى على هذه العلوم منذ ظهورها، وهو بلوغ نفس مستوى العلوم الدقيقة عن طريق إظهار أن هذه العلوم تعتمد على طرق ووسائل موضوعية، مما يسمح لها ببلوغ نتائج موضوعية. إن هذه الرغبة كان من ورائها دافع وحافز قوي هو الرغبة في النهوض بالعلوم الإنسانية لكي تلحق بالعلوم الحقة. فساد الاعتقاد بأن تقدم العلوم الإنسانية لا يمكن أن يتم إلا عبر إتباع نموذج العلوم الحقة على مستوى المبادئ. وهذا ما جعل العلوم الإنسانية تدرس الإنسان دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الظاهرة الإنسانية، وتميزها باعتبارها تتميز بالإرادة والحرية والبعد الرمزي والبعد الاجتماعي الثقافي وكذلك البعد التاريخي.
أدرس تصميم هذه الفقرة ولحظاتها الكبرى، مبرزا خصوصية كل لحظة، ومستنتجا نوعها.