موجز تاريخ تدريس الفلسفة بالمغرب
كتب بواسطة: سعيد إيماني
ليس ثمة شك في أن المغرب يعتمد في تعليمه الثانوي على مادة الفلسفة إلى جانب باقي المواد الأخرى على اختلافها، وعلاوة على ذلك نجد الدرس الفلسفي داخل فضاء المؤسسة التعليمية والثانوية التأهيلية بالذات يؤسس كينونته ويحققها كأحد الدروس الأساسية والمهمة في امتحانات الباكلوريا، وما دام الأمر على هذا النحو، فإننا سنسعى بعجالة للوقوف عند هذا الدرس وتبيانه حتى يكون له بطاقة هوية لمن يحب أن يعرفه، ونستزيد من التعرف عليه من خلال مداخلات متصفحي هذا الموضوع وقرائه. فما هو الدرس الفلسفي بالمغرب؟
لقد شهدت البلدان المتحضرة منذ زمن بعيد دخول الفلسفة إلى أسوار مؤسساتها التعليمية وباتت مادة تؤسس لحضورها جنبا على جنب مع غيرها من دروس باقي المواد [ولا أحد ينكر أن بداياته جاءت مع الفلسفة اليونانية]، لكن رصدنا للدرس الفلسفي يجعله كباقي الدروس التي تتوخى تحقيق نشاط تعليمي تعلمي يعتمد في إيصال أهدافه على النشاط الشفهي بالدرجة الأولى، من خلال المناقشة التي تكون بين جماعة القسم وتتخللها الكتابة بين الفينة والأخرى.. زمنه يمتد على طول السنة الدراسية ومكانه هو مؤسسة التعليم الثانوي التأهيلي، لهذا فهو يختلف تماما عن أشكال الدرس الجامعي أو الدرس القديم كما هو معلوم في تعليم الفلاسفة اليونان والمسلمين مثلا.
عموما بات الدرس الفلسفي باعتباره مادة كباقي المواد ينبني على جملة من المقومات تؤثث قيامه وهي: الأهداف (الكفايات)، المحتوى ، الطرق، الوسائل، التقويم.
يقوم التعليم الفلسفي المغربي على تصور أقرب إلى التعليم الفرنسي إن لم نقل هو نسخة منه، الأمر الذي يجعل من هذا التعليم محكوما بالتبعية التي تولي المنظور الكانطي أهمية كبرى والذي يجعل من مقصد الفلسفة التفلسف، أي جعل التفلسف هدفا أسمى لكل تعليم، يمكن المتعلم من التعود على ممارسة مجموعة من آليات التفكير ومهاراته بدل اكتساب المعرفة الفلسفية الجاهزة كما انحرف إلى ذلك هيجل.
قلنا إن الدرس الفلسفي بالمغرب يظل تابعا ومحكوما بهوس التبعية للدرس الفلسفي الفرنسي، لكنه لم يعثر على نفسه خارج أسوار الثانوية، بل داخلها خلال ثلاثينيات القرن الماضي، وامتد إلى السبعينيات من نفس القرن، حيث الدرس الفلسفي كان مفرنسا قبل أن يتم إخراجه في وصفة معربة سنة 1971 .. وقد شمل حينها الدرس الفلسفي برنامجين أحدهما للفلسفة والآخر للفكر الإسلامي.. وكانت الكتب المدرسية الموجهة لطلاب الباكلوريا المغربية آنذاك تتضمن موضوعات التزم فيها على مبدأين أساسيين : وهما أن الكتاب المدرسي هو كتاب مشترك بين الطالب والأستاذ، فهو ضروري لكل منهما رغم أن اعتماده لا يعني استغناء الطالب عن شرح أستاذه وتحليلاته، ولا يعني ذلك أيضا اكتفاء المدرس به دون أن يستعين بمراجعه الأساسية المهمة ، لكن الكتاب جاء قصد نزع فتيل الاختلاف في وجهات النظر وتباعدها، حتى لا يكون لها تأثير على الطلاب في الامتحانات، وأيضا نجد أن هذا الكتاب المدرسي قد حرص في تجميعه على موضوعاته طبقا لما توصل الفكر الفلسفي المعاصر في مختلف الميادين الابستيمولوجية والسوسيولوجية والفلسفية العامة...
غير ان الكتاب المدرسي يتم تعديله سنة 1978 وتخفيفه سنة 1981، لكنه رغم ذلك بقي وجوده وجودا بالقوة داخل حجرات الدرس، إذ كان الدرس الفلسفي المغربي يعول بصفة كاملة على الأستاذ المطالب بإعداد وإنجاز درسه مطعما برؤية إيديولوجية متصارعة عملت كلها لأجل بناء وعي غيب التفلسف والتلميذ أيضا.
في سنة 1991، ستظهر مقررات وكتب مدرسية جديدة، ستحدث قطيعة مع الماضي وتحجب التلاخيص المطولة والمحاضرات والسرد التاريخي الذي يعتقد أنه دنس الدرس الفلسفي، وغيب الكتاب واستحضر الإيديولوجيا داخل حجرات الدرس، لتحضر محلها مفاهيم هي الأساس الذي بنيت عليه هذه الكتب، وأتت الدرس الجديد الذي بات يعتمد على النصوص التي تندرج تحت عناوين الوحدات الدراسية كأداة ومادة رئيسية للاشتغال تتناول مفاهيم كالطبيعة والثقافة، الشريعة والبيان، او مفاهيم اللغة والمعرفة العلمية والحقيقة والشخصية...
وفي سنة 1995 ستطرأ تعديلات على المقرر الدراسي لمادة الفلسفة، حيث سيتم اعتماد برامج تقوم على مفاهيم كانت عبارة عن عناوين للوحدات الدراسية المعتمدة في هذا المقرر، تجعل من النصوص فضاء لتناول هذه المفاهيم وتبيان الإشكالات التي تعالجها، كمفهوم اللغة والعقل والحقيقة والنظرية والشخصية والسعادة والحق... مرفقة بعرض موسع يشتمل على تصور إشكالي للموضوعة ومفاهيم ومواقف أساسية في معالجة تلك الموضوعة وتأطيرا موجها لاستعمال النصوص التي تتوزع بين التحليل والتي تدخل في بناء الدرس داخل الفصل وأخرى للاستثمار لأجل توسيع أفق الدرس أو التمرن على التحليل أو التدريب على إنجاز الإنشاء أو رصد حصيلة الدرس بالنسبة للتلميذ.
لقد بقي الدرس الفلسفي بالمغرب يعتمد على هذا المقرر الدراسي الذي دام زهاء عشر سنوات وأكثر والتي كانت كافية لتحقيق نجاحات إلى جانب إخفاقات لم تتمكن من إيقاف زحفه وتعميره داخل الأقسام إلى حدود الموسم الدراسي 05-2006، إذ سيظهر جيل جديد من الكتب المدرسية تكسر قدسية الكتاب الواحد والوحيد، لتعرف تنوعا في الإصدارات واختلافا في التناول رغم وحدة المواضيع والمضامين، حيث سيستمر العمل بالمفاهيم لكن داخل مجزوءات مختلفة. إذ بات الدرس الفلسفي الراهن يتأسس على الاختيارات والتوجيهات التربوية المحددة في الكتاب الأبيض، وخاصة منها اعتماد المقاربة بالكفايات، والمقاربة الفاعلة والتفاعلية، والعلاقة التكاملية بين المواد الدراسية، واعتماد المجزوءة كوحدة للمنهاج وصيغة لتدبير التعلم. وقد ركز الدرس الفلسفي في تناوله لموضوع المجزوءة على مسألة التدرج ليناسب المستويات العمرية وقد تزامن ذلك مع اعتماد الفلسفة في مستوى الجذع المشترك لأول مرة وصولا إلى السنة الثانية من سلك الباكلوريا وذلك بالاشتغال على وضعيات تعلمية محفزة تسهل وتحقق انخراط التلميذ في التفكير والتعلم حول موضوع المجزوءة، وكذا الاشتغال على النصوص الفلسفية وربطها بالتفكير الشخصي للتلاميذ مع استدعاء معارف متنوعة رافدة للتفكير الفلسفي (أدبية، فنية، علمية، سياسية، تاريخية...)، وكل مجزوءة تنخرط فيها مجموعة من المفاهيم ذات صلة مع بعضها يتم معالجتها، كمجزوءات الفلسفة والطبيعة والثقافة والإنسان والوضع البشري والمعرف والسياسة والأخلاق...
عموما عندما نتأمل هذا الدرس الفلسفي الجديد في حلته الجديدة فهو يندرج تحت عنوان "الفلسفة" ويعتبر الفكر الفلسفي الإسلامي جزء من التراث الفلسفي الإنساني، وبالتالي لا مبرر من الوجهة التربوية تمييزه وعزله عن الفكر الفلسفي العالمي، لكونه لا يقل عنه ولا يفوقه قيمة، كما أن المنهاج الجديد للفلسفة يتميز بوحدة الإطار المرجعي الملزم وطنيا، ومضامين الكتب المدرسية والطرق البيداغوجية والتقنيات الديداكتيكية المقترحة فيها، فللأستاذ حرية التصرف فيها وفقا لظروف وشروط ممارستها الفعلية وإمكاناته التكوينة ... ، الأمر الذي لم يعد معمولا به ، فأعاد الدرس الفلسفي إلى إلزامية الكتاب المدرسي رغم المآخذ المتعددة حولها. وقمعت حرية تصرف الأستاذ وأجبرته على العمل مكرها بكتب لا انجذاب له نحوها.
لقد تميز الدرس الفلسفي بالمغرب بالمد والجزر، بالاحتفالية العابرة والتهميش الثابت والمتأصل، بين القبول والرفض، فتغلغلت فيه الإيديولوجيا وصار مغيبا في حجرات الدرس، لكنه يعود وهو مقيد بعدة ديداكتيكية شأنه في ذلك شأن باقي المواد المدرسة، ولئن انتهى به الأمر إلى معالجة مجموعة من القضايا في إطار المجزوءات، فقد أمل أساتذة الفلسفة في الثانوي أن يعلن قطيعة مع حالة العقم الشديدة والأفكار النمطية التي جاء بها المقرر الذي امتد لعقد من الزمن. خصوصا مع عودة جملة من المفاهيم التي ينبغي مقاربتها بمنظورات أغنى وأعمق كمفهوم الدولة والتاريخ وعلمية العلوم الإنسانية مثلا...و نجد أن بعض المفاهيم قد تم إحداث قران بينها من أجل إثراء الفهم والمسعى الحقيقي لها وكمثال على ذلك " الحق والعدالة".
كما أن مفهوم العنف الذي لم يشكل موضوعا من موضوعات الفلسفة بالمغرب في السابق كان من الحري أن يتخذ له موقعا في الدراسة الفلسفية من خلال مقاربته من زوايا متعددة قد نجملها في جميع أشكال العنف المحتملة سواء رمزيا أو ثقافيا وكل ما يمكن أن يفقد الذات الإنسانية ماهيتها ويحكم عليها بالاستلاب...
وكبديل لمفهوم الشخصية الذي تعب منه الكل خصوصا مع المقاربات العلمية التي اعتمدها، عادة ما كان يهمل مفهوم الشخص إلا داخل المقاربة الفلسفية التي كانت تمر عليه مرورا سريعا دون إمعان، إنه المفهوم المغيب الذي أسس له حضورا في البرنامج الجديد لأهميته في العودة إلى الشخص وارتباطه بموضوع الهوية باعتباره شخص له قيمة، فلا قيمة للشخص داخل المجتمعات المتخلفة باستثناء تلك الملحقات التي يمكن ان تحقق ذلك كالجاه والمنصب والسياسة و النفوذ...
وهذه مناسبة لتأكيد هوية المتعلمين ووطنيتهم وليس كما هو معروف ومتعارف عليه.
هاهنا الفرصة إذن، لتعود إلى أستاذ الفلسفة قوته وحضوره وريادته في قيادة الجماهير وتوجيههم ليس بالطريقة الإيديولوجية المعهودة، بل بالطريقة الفكرية المتجردة. لكن هذا لم يحصل بسبب تقزيم دور الأستاذ وإلزامية الكتب التي لم تكن في مستوى التطلعات بالمقارنة مع الكتاب المدرسي المعتمد في تدريس الفلسفة بدولة تونس.
لذلك إذا ما تأملنا تاريخ تدريس الفلسفة بالثانوية التأهيلية بالمغرب بهذه العجالة، فإن التساؤل عن حصيلته ومكتسباته، تدفعنا للتساؤل عن راهنيته ومدى إسهامه في بلورة ثقافة تنويرية وشعبية لدى التلميذ المغربي؟ وهل استطاع من خلال التراكمات التي خلفها أن يستجيب لتطلعات المواطنين أم أنه بات شبحا يخيف وينفر أكثر مما هو درس للتوازن والاستقرار النفسي لدى المتعلمين والآباء أيضا؟