الوجود عند هيدجر (1889-1976)
يعد الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر من الأسماء البارزة في سماء الفلسفة المعاصرة عموما والفلسفة الوجودية بصفة خاصة. وقد نعته الدكتور عبد الرحمان بدوي بزعيم الوجودية،
نظرا لأنه هو الذي أقام البنيان العام للمذهب الوجودي وجعله من أكبر المذاهب الفلسفية المعاصرة وذلك بوضعه مذهبا متكاملا في الوجود وتأسيسه لمجموعة من الأطروحات والمفاهيم التي عرفت بها الفلسفة الوجودية بمختلف تياراتها. فهو يؤكد على ضرورة الانطلاق من دراسة الموجود(الذي هو الإنسان) لدراسة ماهية الموجود.
يرى هيدجر بأن الإنسان هو كائن موجود في العالم، ومعنى ذلك انه يتواجد ضمن الوجود المادي لأشياء العالم، لكنه يختلف عن هذه الأشياء بتميزه بخصوصيات ومنها ذاتيته وفرديته. كما أنه يوجد مع الآخرين وهم ذوات أخرى تشبهه وتختلف عنه في نفس الوقت. وهذا دليل على هذه أن الذات ليست ذاتا مستقلة تماما بل توجد في العالم مع تلك الذوات.
من هنا نستنتج مع أن الإنسان حسب هيدجر يتميز بوجودين: وجود في العالم ووجود مع الآخرين، وهذا الوجود ينقسم إلى قسمين: الوجود الحقيقي، والوجود الزائف.
1- الوجود مع الآخرين: إن الأنا موجود في العالم، يعيش بين الأشياء والآخرين ويمتلك من الإمكانات والطاقات ما يدفعه إلى ربط علاقات إيجابية مع العالم الخارجي ويتقاسم وجوده مع غيره من الذوات الأخرى ، لكن هذا الوجود له جانبان متناقضان، واحد سلبي والآخر إيجابي، وذلك تبعا للأساليب التي ينهجها الفرد في حياته، بحيث يجسد الجانب الإيجابي أسلوبا أصيلا و يشكل نقيضه الأسلوب الزائف . إذن فالوجد الحقيقي ينطلق من تحمل الإنسان لمسؤولياته واختياراته وقدرته على اتخاذ القرارات بوعي كامل بالأوضاع والظروف التي تحيط به .
2- الوجود الزائف: إنه الوجود النمطي الغارق في الحاضر، حيث ينفصل الشخص عن اختياراته الذاتية وإمكانياته الخاصة ويصبح تابعا لإرادات الآخرين، فيسقط في حالة الاغتراب التي ينعزل فيها عن ذاته ويتحول وجوده إلى شيء غريب عنه.
إن الحياة اليومية تفرغ الذات من وجودها الحقيقي الذي هو الوجود المستقل، وتصبح مهددة من طرف الآخرين ولا تشعر بوجودها الحقيقي.
علاقة الأنا بالغير:
يعتبر هيدجر بأن الأنا هي ظاهرة من ظواهر الوجود ، ووجودها محدودفي الزمان والمكان. فالأنا موجود هنا : دازاين. ووجوده رهين بوجود الآخرين. ووجود العالم لم يكن متوقفا على إرادته، حيث قذف به فسقط فيه، وأصبح محاصرا لا يملك إلا التسليم، لكن هذا السقوط يتضمن عنصرا إيجابيا، لأنه عن طريقه كشف عن نفسه. إن هذا السقوط هو الذي حدد وجوده وحقق إمكانياته. ولكنه في نفس الوقت جعل الأنا تتحول إلى أداة بيد الذوات الأخرى التي ستصبح مصدر التقويم والتفكير والممارسة، وبالتالي مصدر الوجود، هنا تفقد الأنا صلتها بنفسها وترتبط أساسا بالغير وبالأشياء. فينخرط الفرد في أنماط هذه الحياة الزائفة والمبتذلة والتي تسود فيها مجموعة من السلوكات كالثرثرة والفضول والغموض. إن الثرثرة تعتمد على الشائعات فيغيب المنطق والموضوعية ويسود الابتذال، أما الفضول هو التطلع إلى معرفة الأشياء لكن بسطحية ودون التعمق في الأشياء والاكتفاء بالمظاهر الخارجية والأوهام الخادعة. أما الغموض فهو عجز الإنسان على معرفة ذاته ووضعه الحقيقي بسبب تبعيته للآخرين. هنا تتعرض ذاته للاستلاب والضياع. لذلك يرى هيدجر أن على هذه الذات إن هي أرادت أن تحتفظ بوجودها الحقيقي أن تأخذ مسافة بينها وبين الآخرين مع التأكيد على خصائصها الذاتية داخل هذه المسافة، فالوجود مع الآخرين يساوي بين الناس ويجعلهم متشابهين دون تفرد وتميز، فالوجود الكلي يلغي الوجود الفردي ويقضي عليه، فيستسلم الفرد إلى الجماعة و يفقد وجوده الشخصي ويتخلى بالتالي عن مسؤولياته و عن حريته في الاختيار والقرار.
الخوف والقلق
إذن كيف يمكن للإنسان أن يتخلص من هذا الوجود الزائف ليحقق وجوده الأصيل؟
يجيب هيدجربأن عملية التجاوز تم عن طريق القلق، وهنا يميز هيدجر بين الخوف والقلق. فإذا كان الخوف من العدم هو الذي يدفع الإنسان إلى متاهات الثرثرة والفضول والغموض من اجل إخفاء ذاتيته والاطمئنان إلى الوهم. فإن القلق يساعده على معرفة العدم، أي معرفة أنه موجود من أجل الموت، وأنه سيموت وحده ولن يشاركه أحد في تلك التجربة الرهيبة. من هنا يصبح القلق هو الوسيلة التي من خلالها يتعرف الإنسان على حقيقته بل على عبثية الوجود برمته. فهو عندما يهرب من وجوده الزائف مع الآخرين يجد نفسه أمام حقيقة الموت الذي يهدده بدوره، من هنا سيكون أما اختيارين لا ثالث لهما إما أن يفر إليهم ويحتمي بهم فيعود بالتالي إلى عالم الزيف والسطحية، وإما أن سينعزل لوحده لينتظر مواجهة مصيره المحتوم.