هل نحن نقوم في نظامنا التعليمي ذكاء التلميذ وقدراته الإبداعية أم نكرس – وكما قال ابن خلدون منذ زمان- ثقافة الحفظ والترداد؟وضعت هذا السؤال على نفسي عندما كنت في باريس في شهر يونيه من سنة 2012 ،
وعايشت جو امتحانات البكالوريا هناك، فكانت أول مادة تفتتح بها الامتحانات هي مادة الفلسفة، وبعدها بأسبوع تأتي المواد الأخرى حسب الشعب.
إن ما شد انتباهي هو الاهتمام البالغ والترقب الشديد من التلاميذ والآباء وكل وسائل الإعلام لما ستكون عليه المواضيع. بل نجد التلفزة تستضيف في النشرة الزوالية ليوم الامتحان ، أستاذا للفلسفة ليعلق على المواضيع ، ويبين إشكالاتها ورهاناتها. كما يتم تقديم آراء بعض التلاميذ وآباءهم في المواضيع التي طرحت في الامتحان. لا يسع المرء والحالة هذه إلا أن يتساءل : لماذا كل هذا الاهتمام الذي يبدو مبالغا فيه بمواضيع مادة الفلسفة دون سواها من المواد؟ يعود هذا الاهتمام الشديد بالفلسفة –حسب ما سمعته من الضيف على النشرة، وما أعرفه كذلك - إلى أن التقويم فيها يختلف بعض الشيء عن التقويم في باقي المواد الأخرى، فهو لا ينصب بتاتا على الذاكرة أو الحافظة، وإنما على قياس مدى قدرة التفكير الذاتي في الأشكلة والمفهمة والتدليل للوصول إلى حل الإشكال أو على الأقل على الانفتاح على الحل . ذلك أن الإنشاء الفلسفي ليس إعادة كتابة للدروس. ولا استعراضا للمذاهب والمواقف. كما أنه ليس عرضا لإجابات جاهزة، وإنما تتم فيه معالجة إشكال معين بطريقة مؤسَّسة غالبا ما يرتبط بالمعيش أو بالدوكسا أو بحكم مسبق، أو بأطروحة فيلسوف آخر؛ وحل هذا الإشكال لا يوجد في الدروس التي تلقاها التلميذ خلال السنة، وإنما يكون من إبداعه، مستعينا في ذلك على قوة ذكائه وبما تعلمه من تفلسف خلال السنة الدراسية، وما مارسه لاكتساب قوة التدليل والحمل على الإقناع، وما تشبع به من ثقافة عامة. إن مقارنة بسيطة بين مواضيع امتحان البكالوريا عندنا وما يقدم عندهم، تطهر البون الشاسع بين مقاصد تدريس الفلسفة هنا وهناك. عندها تذكرت ما كتبته في إحدى ردودي في "منتدى الحجاج" على موضوع "من هو الغير بالنسبة لديكارت"، ومما جاء فيه ما يلي: بقيت مسألة تتعلق بالسؤال التالي: " كيف نعمل على تعميم روح التفهّم من قبل المصحح أمام اكتشاف اجتهاد زميله المتمثل في كتابة التلميذ، ولم لا اجتهاد التلميذ نفسه ؟"سأجيب عن هذا السؤال بسؤال آخر: لمَ يعتبر الحجاج إلى جانب الأشكلة والمفهمة من الأهداف – النووية في تدريس الفلسفة؟ أليس لغرض الإقناع بمحاولة الحل المقترح للإشكال سواء كان المتلقي تلميذا أو أستاذا؟ إن ما يخنق الدرس الفلسفي هو نمط الكتاب الواحد، والدرس الواحد، وما يقتل الإبداع في الإنشاء الفلسفي في الامتحان هو الالتزام بعناصر الإجابة وسلم التنقيط الواحدة والمفروض من فوق. إن مثل هذه الوضعية لا يمكن أن تؤدي إلا إلى النفور من أي اجتهاد ولو كان طريفا أو مدعما بحجج، ومن ثم يدخل التقويم في باب "بضاعتنا ردت إلينا". هل تحن ندرس الفلسفة أم التفلسف؟ أترك الجواب لكل واحد منا..