في تطور التفكير الإغريقي، تفاعلت عدة عوامل سياسية، اجتماعية، اقتصادية،

وثقافية أحدثت تحولات هامة، وفقًا لما أوضحه المؤرخ "جون بيير فيرنان" في كتابه "بين الأسطورة والسياسة". وقد أدت هذه التحولات إلى انتقال كبير في نمط التفكير من الأسطورة (الميتوس) إلى العقل (اللوغوس)، حيث بدأت هذه التحولات في القرن السابع والسادس قبل الميلاد.

الشروط المؤثرة في تحول الفكر الإغريقي

  1. التحول من الميثوس إلى اللوغوس:
    كان التفكير الإغريقي قبل الفلسفة يعتمد بشكل أساسي على الأساطير والقصص الخيالية (الميتوس)، التي استخدمت لتفسير العالم والوجود من خلال حكايات عن الآلهة والمخلوقات الخارقة للطبيعة. هذه الأساطير كانت تعتمد على التقاليد الشفوية ولم تتطلب براهين أو منطق. ولكن مع ظهور الفلسفة، برز نوع جديد من التفكير يعتمد على البرهان والحجة العقلانية (اللوغوس)، مما أدى إلى قطيعة مع التفكير الأسطوري.

  2. ظهور الرياضيات والفكر العلمي:
    مع بروز علوم الرياضيات، بدأت الفلسفة تأخذ منحى أكثر تجريديًا ومنطقيًا. الفيلسوف طاليس كان من بين أوائل من تأثروا بهذا التحول في القرن السادس قبل الميلاد، مما ساهم في تغيير فهم الإغريق للطبيعة والكون، حيث أصبح الفهم يعتمد على قوانين منطقية وقابلة للقياس، بدلاً من قصص الآلهة والأساطير.

  3. الإصلاحات السياسية والاجتماعية:
    من بين أبرز التحولات السياسية التي شهدتها اليونان إصلاحات كليستين في القرن السابع قبل الميلاد، والتي غيرت بنية المجتمع الإغريقي. قبل هذه الإصلاحات، كان المجتمع الإغريقي مقسمًا إلى قبائل تعتمد على الروابط الدموية. ومع إصلاحات كليستين، تم تقسيم المجتمع إلى مدن ومناطق إدارية، مما ساعد في خلق مصالح مشتركة بين الأفراد بدلًا من المصالح القبلية الخاصة. كما أن هذه الإصلاحات أسست نظامًا سياسيًا ديمقراطيًا، حيث أصبح القانون علنيًا وأصبح من حق كل مواطن التعبير عن رأيه والمشاركة في الشأن العام عبر الساحات العامة مثل الأغورا، التي كانت تعتبر مركزًا للنقاشات السياسية والإدارية.

  4. التحول الاقتصادي: العملة والتجارة:
    تطور الاقتصاد في اليونان القديمة كان من العوامل المؤثرة في ظهور الفكر الفلسفي الجديد. استبدال نظام المقايضة بالعملة أدى إلى تطور النشاط التجاري والبحري، مما جعل المجتمع اليوناني أكثر انفتاحًا على الثقافات الأخرى. هذا الانفتاح التجاري ساهم في تبادل الأفكار والمفاهيم، وأدى إلى تطور الفكر الفلسفي الذي أخذ في الاعتبار التغيرات الاقتصادية والاجتماعية.

  5. ظهور نظام الدولة المدينة (Polis):
    الإصلاحات السياسية والاجتماعية ساهمت في تأسيس نظام الدولة المدينة أو البوليس، حيث أصبحت المدن الإغريقية دولًا مستقلة سياسيًا واجتماعيًا. في هذا السياق، ظهرت المؤسسات السياسية التي أتاحت للمواطنين فرصة المشاركة في صنع القرار عبر النقاش العلني. في الأغورا، كان يتم اتخاذ القرارات الهامة التي تخص الحياة الاجتماعية والسياسية للإغريق.

نشأة الفلسفة في السياق التاريخي

الفلسفة، التي نشأت في اليونان القديمة، هي نتيجة لهذه التحولات الكبرى. امتدت هذه النشأة من القرن السابع إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وجاءت كاستجابة لتفاعل العديد من العوامل. كانت أولى بوادر هذا الفكر الجديد تظهر في مستوطنات الإغريق في آسيا الصغرى، حيث بدأ المفكرون يتساءلون عن أصل الكون وطبيعة الوجود بعيدًا عن الأساطير. الفلاسفة الأوائل مثل طاليس، أنكسيمندر، وأنكسيمانس كانوا رواد هذا التحول، حيث حاولوا تفسير العالم اعتمادًا على المبادئ الطبيعية والقوانين العقلانية.

القطيعة بين الميثوس واللوغوس

أدى ظهور اللوغوس إلى فصل الفكر الفلسفي عن الأسطورة، حيث أصبح النقاش يعتمد على العقل والتحليل المنطقي بدلاً من القصص الخيالية. كان هذا التحول أساسيًا في تأسيس العلم والفلسفة كأدوات لفهم العالم بشكل تجريدي، بعيدًا عن التجسيدات الدينية والأسطورية.

خلاصة

نشأة الفلسفة اليونانية حدث تاريخي معقد تأثر بعدة عوامل. بدءًا من التحولات الاجتماعية والسياسية، مثل إصلاحات كليستين، إلى التطور الاقتصادي وظهور العملة، مرورًا بالتأثيرات الفكرية مثل بروز الرياضيات والعقلانية، شكلت هذه الشروط مجتمعة القطيعة بين الفكر الأسطوري التقليدي والفكر الفلسفي العقلاني الذي أصبح فيما بعد الأساس للحضارة الغربية الحديثة.